انغمس في هدأة اللّيل و أخذ يحدّق في سَمَاءِ السَّحَرِ عبر النافذة المُشرعة أبوابها، يقَابل النُّجُوم بابتسامة طريَّةٍ تشتهي السلام، لم ينم الليلة كثيراً بسبب عواء الطائرات ورعد القصف الذي علا معه وميض صواريخ المقاومة في حضن السماء لتكبح جماح الظلام، ما زالت تتراءى أمام عينيه تلك النيران المتأججة من قصف قريب من منزلهم الليلة، و تلك الصور التي تناقلتها قنوات الأخبار عن أشلاء تخضبت بالدماء تاركين خلفهم أرواحاً تغرق بالدموع والوجع، وتحترق بالأسى وتعتصرها نوبات الألم .
هدأ القصف قبل ساعة تقريباً.. قفزت إلى ذهنه فكرة أن العدو يُعد العدة لعدوان كبير، وأن هدوءه هذا يسبق العاصفة، ففتح الخوف أبوابه وسكن روحه شبح الترقب والانتظار، فهذا العدوان كان يَنحت روحه مهما ادعى الثبات.
قام من فراشه وصار يتَجَوَّل فِي فِنَاءِ الدَّارِ ناظراً لشجرة الزيتون والياسمينة المتسلقة على الجدار، يَسْتَنْشِقُ نسمات السَّحر الباردة في ليالي مايو الربيعية، بنقاءٍ مُفْعَمٍ برذاذٍ طَرِيٍّ، يصيب الأجسادَ بقشْعَريرةٍ لذيذةٍ، ويُحرّك الأغصان الهامدة، فتهتزّ رُوحُه وترتجف على إيقاع حفيفها وسط هذا السكون المكنُون في آيةٍ عظيمةٍ.
ورغم أجواء الفجر المفعمة بالجمال اقتحمت خيالاتِه أفكارٌ سوداويةٌ باتت تتجول بحُريةٍ حتى سيطرت على مشاعره ، فانفَتَحَتْ أحاسيْسُ أبي أحمد وتنَبُّؤاتُه على مِصْراعَيْها، وراح يقرؤها قراءةً من نوع جديدٍ، يتساءل عن تفسير ذلك الحُلم الذي يحلمه للمرة الثالثة على التوالي، وهو أن ضرسيه قد سقطا..
تنهدَ وهز رأسه وكأنه ينفض ذلك الحلم عن مُخيلته، قائلًا في سره: “لربما كانت أضغاث أحلام “، ثم عاد لأفكاره وأحاسيسه مرة أخرى، متسائلاً عن سر صياح إوزَّاتِ الدَّار كالنَّحيب، وعن شجرة العنب التي لم تؤتِ أكلها هذا العام، وعن وقوع كأسين من يديه بالأمس وانكسارهما رغم أنه كان يمسكهما جيداً، ثم حدّث نفسه عن سبب قلقه المتضاعف هذه الليلة رغم اعتياده على العدوان المتواصل على غزة لليوم الثالث على التوالي، فقد كان يشعر بصخرة تتربع على صدره فتضيق منها أنفاسه وتسلب النوم من عينيه!
نظر إلى السماء فوجد بضع طائرات بزغت على صفحات الظلام تشوه شكلها، شيء ما كان يطرق زوايا روحه كلما نظر إليها.. حاول طرد تلك الأفكار عن ذاكرته فتوضأ وصلى ما قدّر الله له أن يصلي قبل أن يتبين الخيط الأبيضَ من الأسود، وعندما علا صوت المؤذن مناديا للصلاة دخل مبتسماً إلى غرفة ابنيه ليُوْقِظُهما لصلاة الفجر، قائلاً:
– انْهَضْ يا أحمد .. وأنتَ يا همام.. الصَّلاة الصَّلاة.. اخرجا من تحت الأغطية فالمولى يناديكما.
استيقظ الشابان ثم خرجا معه إلى المسجد وأخذا يتأملان في طريقهما الأبواب التي بدأت تُفتح، والأشجار التي أثقَلها ندى الفجر فانحنت تُقبل المارين بها، والناس الذين يخرجون مستأنسين بصوتِ أذانِ مؤذن المسجدِ الهادرِ العذبِ غير عابئين بذلك القصف الذي كان على أشُدِّه اللية.
أكمل أبو أحمد مشوارَهُ نحْوَ المسْجدِ لإِمامةِ المُصَلِّيْنَ وهو يُتَمْتمُ بالذكر والتسبيح، وعندما وصل إلى المسجد الْتَأَمَ المُصَلّونَ خلفه في جماعة، واختلطَتِ الأنفاسُ والمشاعرُ والألسنُ، وتلاصقت الأكتاف واصطفت الأقدام، فأخذ يرَتِّل كَلِمَاتِ الذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَمَضَتِ الأجْسادُ، والأَرْوَاحُ، تَستنشِق عَبَقَ الرُّكُوْعِ وَالسُّجُودِ، وأخذ الكثيرُ منْهُم يهرقُ دمعَهُ في موضعِ اقترابِه من ربِّهِ، داعين الله أن يدفع عنهم هذا العدوان.
وفجأة علا أزيز الطائرات فواصل أبو أحمد صلاته رغم انقباض قلبه في تلك اللحظة، وبينما هم ساجدون لربهم أطلقت الطائرة صاروخاً بعثر المصلين، فهُرِعَ بعضهم أَوْزَاعاً يهربون من القصف الذي حمي وطيسه بعدها، وصاروا يحثّون الخُطى نحو بيوتهم مذعورين، وقام بعضهم الآخر يُنقذ من فيه بقايا حياة ويساعد المسعفين بنقل ضحايا العدوان إلى سيارات الإسعاف، ثم أخذوا يعدُّون الشهداء الذين خضبوا المسجد بدمائهم، وغلبَ الوجدُ أفْئدةَ الكثيرين، وارتفعَ صوت التَّكبير والنحيب، وعَجَّ المسجدُ بالبَشَرِ، وضَجَّ بنشيج الآهاتِ المُتلاطمةِ، وطُبِعَ لونُ الدماء على أكُفِّ الحاملين، وجباه الفاقدين.
وصار الجميع يتهامسُون بألمٍ: هذا الرجل المكلوم فقد ابنيه أحمد وهمام.
وزخرَ التَّهامسُ قُبيل هذا التساؤُل المشحون بالفَقْد، والوجدِ لأحد المصليين: “هل للإمام أبناء آخرون غير الشهيدين، أم أنه بقي وحيداً في بيته بعد رحيلهما؟؟!”
فعلت الأصوات بالدعاء بأن يرزقه الله الصبر والسلوان فقد أصبح الآن وحيداً.
.. أخذ الشيخ يتأمل جثتي ولديه المسجّاتين أمامه تلتصق في أذنه كلماتُ الدُّعاء له بالثبات، ثم عَلَّق عينيه بوجه السَّماءِ يتمنى من الله القبول فهم في ذمته الآن.. وبعدها نهض ليلتحق بحفل زِفافِ الشّهداء وكُتَلٌ من البشَرِ خلفه تتزاحم كالفراشِ، يحملون نعش الشهداء إلى المقبرة، وقد تجمهر حوله أصحابه يتلقفونه بآيات الصبر والثبات ليهدأ.
وعندما انفضّ بيت العزاء ليلاً وانكفأت الشّمس بحزن حتى غابت خلف ركام البيوت، تكوّر الشيخ في فراشه بجناحيه المنكسرين، يعلم أنه لن يستطيع النجاة من مِقصلة الفقد ومتاهات الوجع، فستباغته الذكريات عند كل لحظة صمت، وسيظل قابعا بين مُدى الألم وجدران الحزن حتى يأخذ الله أمانته، ثم بكى ابنيه بضراوةٍ عندما تبادر إلى ذهنه قوله تعالى “هذا تأويل رؤياي قد جعلها ربي حقاً”.. حينها حاول منهكاً أن يُلملم شعثَ روحه مستلهماً الصبر بنفسٍ عميق، ليستريحَ على شطآنِ الرِّضا.