6 December, 2024

منتصف ليل غزة – بقلم عبد المجيد رفيع

 

      في تلك الليلة الباردة من ليالي يناير.. كانت أم أحمد عبثاً تحاول جعل طفلتها تخلُد للنوم.. تدفع البَزَّازةَ الزجاجية الفارغة إلى فمها.. فلا تجدُ غير الهواء.. تمُصُّ الحلمة المطاطية بلا يأس.. لا حليبَ يصل إلى جوفها.. حملتْ صغيرتَها في حضنها حتى تَيَبَّسَ ذراعاها وبلغ منها التعب مبلغه.. تحسست جوانبَها في ذلك الظلام.. بلغت يداها ذاك المهد المُغْبَرّ.. كان المهد من الأثاث الذي نجا من قصف العدو.. وضعت صغيرتها داخلَه.. وشرعت تُهدْهِدُها برفق عسى أن يغمضَ لها جفن.. لكن الجائع أنَّى له أن ينام.. فإذا اجتمع الجوع والبرد استيقظت جميعُ الحواسِّ في الانسان تَؤزُّه أَزّاً. بعد أن كان البيت ملجأً من الحر والقر.. صار اليوم مُشَرْعاً للريح من الجهات الأربع.. بعضالنور يصل إليها من الحي المجاور..

      أطولُ الليالي.. ليالي غزة.. أعمقُ الجروح غوْراً.. جروحُ غزة..

      أفظعُ الظلم.. ما يقع على غزة.

      قبلَ شهرٍ غادر فتياها اليافِعان نحو الشرق لصدِّ هجوم العدوِّ اللقيط من كذا جنسية.. من أجل خوضِ معركة الكرامة.. كل المعارك في فلسطين من أجل الكرامة.. استُشْهِدا هناك بعيداً عن الديار.. لا ضرر في الموت بعيداً عن الديار.. فدعاء الأمهات يصل حيث يوجد الله.. تنازلا عن دروسهما الجامعية من أجل حمل السلاح.. ألم يقُل ذاك الحكيمُ الخبير: القلمُ مهما تطاول في قامته فلن يصل إلى كعب البندقية.. والحبرُ مهما قال بلاغةً فسيبدو ركيكاً في حضرة الدم..

      من يملك فؤاداً مثل فؤاد الغزاوية؟ رغم الحرب تُلفيها منتشيةً بالفرح.. مدثَّرة بالكبرياء.      أشفقت على الصغيرة.. أخذتْ تترقب ظهور خيوط الفجر.. ربما تجد بعض الحليب عند الجارات.. نساء غزة يقتسمن الصبر كما يقتسمن الفرح.. أبو أحمد مات قبل عام.. كان يحرث حقله.. حين دهمت أرضَه عصابةٌ من ثمانية جنود.. أمروه بالمغادرة.. أَبَى.. ساوموه على أرضه بحياته.. قال إن الأرض هي حياتي.. وكَزه أحدهم بِعَقِبِ سلاحه.. لم يجد أبو أحمد بُدّاً من الرد بطريقته.. رفع مِعْوَله ونزل به على رأس الصهيوني.. فهشمه رغم حاجز الخوذة.. لم ينتظر كثيراً لِيُفرِغ السبعةُ الباقون رصاص بنادقِهم في جسده.. اختلط الدم بالتراب.. صار عجينا ذا عبيرٍ لا يشمُّ أريجَه إلا الشهداءُ وأهلُهم..

      .. الناسُ ينتقون من الخيارات أسهلَها.. الفلسطينيُّ يختار أكرمها.

      أخيراً استحيت الصغيرة من دمع أمها.. وأسدلت جفنيها في غفوةٍ ظاهرُها النومُ وباطنها منتهى اليقظة.. ابتعدت أمُّ أحمد قليلا حتى لا تزعجَ النائمة بحركاتها.. مدَّتْ يدها إلى راديو من نوع ترانزستور يعمل بالبطارية.. تجولت عبر موجاتِه المتاحة.. ومن بينها تختبئ إذاعة العدو.. لحسن الحظ أن الأخبار تأتي عبر الأثير.. فلو كانت تُنقَلُ على ظهر شاحنةٍ مثل المساعدات الغذائية والأدوية لقصفها سلاح الصهاينة.. ولو كانت تحمل إشارة الصليب الأحمر.. لأصابتها قذيفة ضالة عن غير قصد.. كما يُبَرَّرُ دائما.. فأحالتها أشلاء.

      تديرُ الموَّاج.. تقف على إذاعة عربية من عرب الجوار.. نشرة الثانية بعد منتصف الليل.. لا شيء جديد.. أخبار مُحبطة.. الحرب لا تزال تحصد أرواح الأبرياء.. تغير المحطة.. يصلها ترتيل شجي.. تُصيخ السمع.. ثم تغفو عند الآية..” “فإذا جاء وعد الآخرة، جئنا بكم لفيفا”.. وهي تتذكر نشأة دولة العدو.. الطفلة لا تزال في نومها.. تخجل أن تفيق.. حتى لا تزيد من وجع أمها..

يعُمُّ هدوء حَذِر.. يستمر المذياع في إرساله..

      سكان حي الزيتون في أمان النوم لغاية اللحظة.. فجأة ينزل صاروخ باليستي أمريكي الصنع على العمارة المجاورة.. يحصد في طريقه ما فَضَل من منزل أم أحمد.. مع الصباح لم يبق إلا آثار وأطلال.. الصورة أبلغ من الكلام.. ليس هناك إحساس أفظعَ من أن تترقب سقوط سقف بيتك على رأسك وأنت تعانق أطفالك.. أن تتوقع الموت في أي لحظة.

      مرةً أخرى ينجو المهد من القصف.. ينتثر دون تحديد وجهته… لكنه هذه المرة يحتفظ برأس الصبي في جوفه.. باقي الجسد يتطاير في الجوار.. لم ينج إلا القليل من الناس.. يصل فريقُ المُسعفين.. يأمرهم رئيسهم بنقل المصابين الأحياء إلى ظلال الأشجار.. يخبرهم أن المستشفى قد قُصِف..

      من استراتيجيات العدو قصفُ المستشفيات لدفع الفلسطينيين إلى الاستسلام.. وهم ينتشلون الضحايا من تحت الأنقاض.. صوت مخنوق يأتي من مكان ما تحت الركام.. يدفع المُسعف بعض الحجارة ثم ينتشل يداً مبتورة عند مستوى الساعد.. تُمْسِك مذياعا صغيراً.. لا يزال صوت المذيع يأتي من قعر المِصوات.. إليكم سيداتي سادتي أهم عناوين ما جاء في نشرة الثامنة.. لا تزال فعاليات المهرجان العربي للرقص الشرقي مستمرة.. مع حضور وازن لأشهر الفنانين العرب.. وفي الخبر الرياضي.. فوز ريال مدريد بثلاثية نظيفة على غريمه برشلونة.. وفرحٌ عارم يجتاح مُحبي الفريق الملكي.. تصحبه احتفالات في شوارع المدن العربية.. وأخيراً.. استمرار قصف غزة..

      العدوان يدخل أسبوعه الخامس.. والزعماء العرب يجتمعون للمرة العاشرة في ظرف شهر لبحث الأزمة.. في محاولة لصياغة الديباجة المناسبة لتحميل الطرفين مسؤولية الأوضاع.. مع الإصرار على تنديدهم بالصمت الدَولي.. وإبراز انزعاجهم من تدهور الأوضاع في غزة.. وبعث برقيات إدانة إلى العدو الصهيوني عبر سفارات دولته في العواصم العربية والإسلامية.

Font Resize