13 April, 2025

مسألة وقت – بقلم وداد الإسطنبولي

قال غير مبالٍ:”إنها فقط مسألةُ وقت”، ثم صمت قليلاً وأردف وهو يقوم بلملمه الأقصوصات المبعثرة ووضعها على زاوية معينة: ربما نحن لا نعرف معنى الشعور بما يجري؛ فمعاناتنا نتيجتها الأخيرة، الوَحدة أو الانتحار، وهؤلاء يتحول شعورهم رغم الجراح، والألم والمقت إلى قوة وتحدٍّ للبقاء.

يأتي صراخ من الجانب الآخر:” انقطع التيار الكهرَبائي يا يعقوب” أجابها بسرعة بصوت متذمر:”تحملي قليلاً فالآخرون يعيشون في ظلمة، وافتحي الشبابيك، وأيضا تحملي لسعَ حرارة الجو الخارجية.

وبعد وقت طويل رجع للخلف وكأنه تذكر شيئاً دار في خلده.. وقف متثاقلاً متمططاً من أثر الجلوس الطويل، ذهب إلى الشباك، ونظر إلى تلك الشجرة الراسخة المزروعة في حوش البيت متأملاً جذرها المتفرعة منه السيقان، وبدأت معالمُ الثمار تظهر على سيقانها،  وبعضُها غير واضح المعالم.. إنها شجرة الزيتون.

وبدأ المنولوج يخرج من صدر يعقوب: “آهٍ.. كم هي راسخةٌ هذه الشجرة.. هدية من صديقي صلاح، فلسطيني الموطن، كم علاقتنا جميلة، وقصيرة المدة، ولكن وثقت ميثاق الأخوة الوطنية والعروبة، فأهداني هذه الشجرة التي كانت عبارة عن شتلة صغيره في حوض.

.. ثم تجعد جبينه متذكراً ما يحدث الآن، ومنذ القصف وهو في محاولات للتواصل معه، ولكن دون جدوى.. تمعن في الشجرة العريقة منذ الأزل البعيد، وأدرك فعلاً أنها شجرةٌ مباركةٌ وارفة الظلال، تؤتي أُكُلها كلَّ حين بإذن ربها، تنغرس داخلها بذور صغيره وهي الزهور الرفيعة التي تأخذ جينات ذلك الجذر القوي المتين.

تتأجج بقوة وصلابه وتنبض بالأمل، يدغدغ نسيمها الإحساس مودعة برد الشتاء، ومرحبة بربيع قادم.

نظر إلى ساعته تشير إلى الخامسة مساء، وشهق فجأة وكما الملسوع هب واقفاً انتعل حذاءه وخرج مسرعاً قائلاً: سارة أنا خارج للمسيرة، ولم ينتظر جواباً منها..

جموع تتوافد عند الجامع الكبير صغاراً وكباراً، هناك من يحمل ميكرفوناً كبيراً بيده، والبعض يتصبب عرقاً وكأنهم أتوَا قبل الأوان، ومنهم من يغطي وجهه بلثام لا تُرى منه إلا عيناه، يضعون على أعناقهم ذلك الرداء المقلم بالأبيض والأسود.. يحملون أوراقاً كتب عليها “فلسطين داري ودربُ انتصاري”.. وآخرون يحملون “المقاطعة المقاطعة”.. وبدأت المسيرة بأصوات ترتفع عالياً بصوتٍ واحد: “خيْبرَ خيبر يا يهود.. جيش محمد بدأ يعود”

وتعالت أصواتهم عالياً، وكلما حطت أقدامهم على زقاق أو طريق يخرج الأطفال والشباب وينضمون إليهم قائلين: بالروح والدم نفديك يا غزة.

تحول الشارع إلى سحابة ضخمة من الجموع، هكذا تعلو حناجرهم وقلوبهم تتألم، وعيونهم تخشع، وألسنتهم تتضرع بالدعاء، وصل يعقوب منهكاً وقدماه منتفختان من أثر المشي، بدأت سارة تضعهما في وعاء ماء ساخن وتغسل قدميه بصابون لتزيل أثر التراب، فقد كان يمشي حافياً في ذلك الطريق الصلب وكأنه يعاقب نفسه بسبب خذلانه، وإكثاره من كلمة أضعف الإيمان.

حدق في علبة الصابون جيداً وفهمت زوجته مقصده فقالت وهي تجفف قدميه: ليس داعماً لليهود، فقد حرَصت في انتقاء الشراء بعناية.. نطلب من الله العفو، ليس بيدنا حيلة.

نهض بتثاقل وجلس على الكرسي وقال: لا يا سارة، عمل أولياء الأمور فينا ما باستطاعتهم فقد قاموا بكل ما بوسعهم بالإمدادات لإخواننا بغزة، ومنها الدعم المالي والاحتجاجات التي ينفذها الشعب في كل أوطان العروبة.. هناك مؤشرات كثيرة تدل على التغيير والتحول، عما كان في الأعوام السابقة، هذه الانتفاضة تختلف وإن كنا متخاذلين فنحن تمنعنا قوانين الدولة فقد…  صمتَ هنا ونظر إليها.. كانت متأثرةً بحديثه قالت وهي تتنفس بعمق: لقد قرأت تلك الأقصوصات المبعثرة وكأنك ترتب أحداث الحركة الصهيونية.. إنها قوائم هشة، من يأتِ من الشتات فهو تيه في الأرض ونحن مشلولون تُجاه هذه الأوضاع وما زلنا متخاذلين تقيدنا المصالح وضعف الإيمان، ولكن هذه الإرادة الإلهية لهذا البلد.

جلس على الأريكة واستجمع قواه وصار يتمتمم: متى سينتفض الديك ويعلن يوماً جديد ونستعيد صوت الحق؟! ثم بصوت مسموع وتساءل:”ليتني أستطيع الاطمئنان على صلاح؟ اقتربت منه والتصق كتفها به ” سيكون بخير بإذن الله لا عليك. غفا يعقوب على الأريكة ولا يدري كم من الوقت مضى على هذه الغفوة. جفنه كان يتحرك وعيناه كانت تنكمشان وتنفرجان وكأن ذاكرته تتعبأ بشيء ما يتصارع مع نفسه فقد غرق في حلم يحاول أن ينزع شيئاً ما في بحره العائم.

وبدأت أنفاسه تتصارع وتصدر صوتاً عميقاً وترن الأصوات في أعماقه لا يتوقف رنينها وأخيراً انتفض واستعاد روحه ومازال يتنفس فقد كان رنين هاتفه أيضاً يرن، ونظر إليه طويلاً ومسح على رأسه.. انتبه الى شاشة الهاتف، إنه رقم غريب.

أتت سارة خلفه.. أمسك الهاتف بصوت متهدج: نعم.

ومن الجهة الأخرى كانت هناك وشوشه.. ألقى بنظرة مرةً أخرى لشاشة الهاتف وأردف: مَن معي؟ ويصرخ الطرف الآخر: أهلا يا يعقوب.. أنا صلاح اطمأن إنني بخير، وأنا…

 ولم يكتمل الحديث فقد انقطع الإرسال مشى يعقوب بخطوات سريعة من زاوية لزاوية يردد اسمه عاليا: صلاح.. صلاح، احتوته زوجته بذراعيها الحمد لله إنه بخير وتغرغرت عينا يعقوب قائلاً: كنتُ أريد أن أقولَ له معلش.

Font Resize