نادتني عندما مررتُ من أمامها دون أن أنظر إليها: يا أديب!
توقفتُ ورجعتُ إلى الوراء خطوتين، ونظرتُ إليها مباشرة.
أكملت: لماذا لا تكتبُ عني؟!
أليس هناك ما يسترعي انتباهَك ويثير قلمَك لتكتب عني؟!
اعتذرتُ إليها بمشاغل الحياة وضغوطها ووقفتُ هُنيهةً أتأملُها.. أمسكت بتلابيبي وأوقفتني أمامها رغم ساقيَّ المتعبتين اللتين لا تستطيعان حملي بفعل الوزنِ الزائدِ والسنِّ..
يا الله!! لماذا لم أكتشف هذا الجمالَ من قبل؟! قلت ذلك بصوت مرتفع..
هكذا الإنسان دائماً لا ينظر إلى ما يطمئن إلى بقائه.
لوحة فنية جميلة لطفل صغير ينظر إلى الأفق البعيد الذي يضيق تدريجياً ويبدو بلا نهاية وقد أعطى للناظر ظهرَه..
ثيابُه باليةٌ ممزقة ويقف على ساق واحدة، الساق الأخرى مبتورة ويتكئ بيده على عكاز، وأثار دماء تنزف من ساقه المبتورة، السواد يحاصر الصورة من الأطراف ويبدو كأطلال بيوت مهدمة.
نجمة صغيرة بعيدة في السماء في طرف اللوحة.
ألوان اللوحة باهتة بفعل الزمن مما أضفى عليها جمالاً وغموضاً في آن واحد.
صعِدت إلى حجرة نومي.. ألقيتُ بجسدي المنهك على السرير، وأغمضتُ عيني محاولاً النوم..
الطفلُ يسألني من أنا، ألا تعرفني؟!
أرد بصوت خافت: أنت البراءة والضعف والحلم.. أنت المستقبل.. الأمل.. النجمة الصغيرة اللامعة في السماء.
ألم يلفت نظرَك ساقي المقطوعة والدماء الطازجة التي تنزف منها؟! يشدني بيده ويوجه بصري إلى اللوحة..
أنظر في طرف الصورة هنا في الأسفل، هذه ساقي الصغيرة المبتورة
يتركني وينظر إلى الأفق..
تراني نسيت ساقي؟!
-لا أعتقد
يلوّح بعكازه في الهواء ويسألني أن أتأملَه.
يبدو قصيراً بعض الشيء.
أنظر إليه مرة ثانية، هناك ورقات صغيرة تنبت فيه.
نعم رأيتها، أوراق الزيتون.
-تحققْ منها.
استيقظتُ منزعجاً، قفزتُ من فوق السرير، وهبطتُ مسرعاً إلى حيث اللوحة.
لم تكن موجودة!!!
جلستُ على كرسيّ وأنا أنظر إلى مكانها على الحائط.. كانت هنا.. أين ذهبت؟ لم أغب عنها سوى سويعات قليلة.
الطفل لا يغادرني.. يقتحمني.. يصفعني.. يضربني بعكازه الصغيرة.. يركلني بقدمه الواحدة.. يصرخ: ألا تعرفُني؟!
أنظرُ إلى ملامحِ وجهي.. دموعي.. أنظر في ظلال الصورة.. خلف البيوت المهدمة.. ألا ترى تلك الدبابة التي تصوب رشاشها إلى صدري العاري؟!
أمسكتُ قلمي وبدأتُ أكتب، لماذا لا تكتبُ عني؟!