24 March, 2025

لا تفتحوا الرسائل القديمة – بقلم آسيا رحاحيله

حاولت أن أنام لكنّ الأرق تمدّد بجانبي وزاحمني بمنكبه. تركته يستبيح  وسادتي ولحافي و قمت.. جلست إلى مكتبي و فتحت الحاسوب.. تفقدت بريدي الإلكتروني.. وجدت دعوة لحضور مؤتمر طبي، و عدة رسائل من مواقع طبية و علمية أنتسب إليها.

      ثم لا أدري لم نقرت على عبارة “غير مقروء”. ووجدتها هناك.. رسائل بتاريخ قديم.. ونفس العبارة في خانة: الموضوع: ” إلى سوسنة قلبي”

      كيف لم أنتبه لها؟

      ولماذا لم أفتحها؟

      كانت كلها رسائل من سيف.. مرّت 6 سنوات على قصتي مع سيف.. فتحت الرسائل وليتني ما فعلت.

      14_12_2012      
    كلام كثير في قلبي وأحلام جميلة تزهر بداخلي رغم الرماد و النار، لكن لا حول لي ولا قوة، ليس لي من طرفك سوى الصمت والغياب وليس لك من طرفي سوى قلم يبريه اليأس في كل يوم أكثر، وقلب تمزقت أوصاله بذكرك.
    اليوم يمر شهر بالضبط على بداية الحرب هنا.. الغارات الإسرائيلية متواصلة تحصد مئات الأرواح البريئة.. مئات الجرحى يؤثثون الشوارع بالأنين، و قصف للمنازل وتدمير للمباني.. عدد الشهداء في ارتفاع مستمر.. صفارات الإنذار وحدها تستطيع أن تدفعنا إلى الجنون.. الحرب النفسية متواصلة أيضا.. اليوم مثلاً قاموا بإلقاء منشورات فوق كل غزة، مرة يطالبوننا بالإخلاء ومرة بالاتصال على هاتف معين للإبلاغ عن المقاومين.. ما أغباهم.. من المغفل الخائن الذي سيبلِّغ عمّن يصدّون بظهورهم عن صدورنا سهام الموت؟!

      19_12_2012

      أنت كل ما أحتاجه من الجزائر، بل من الدنيا.. وكل ما أحتاجه ممن حولك أن يسعدوك لأنّ في ذلك سعادتي.. أريدك أن تكوني ملكة متوّجة بين أهلك.. عندما أفقد الأمل في أن تكوني معي، يسكنني حلم مستحيل بأن أكون معك، بأيّ شكل من الأشكال.. كأن أكون  قريبك أو جارك أو أحد مرضاك أو أحد أبنائك.. نعم.. ليتني أحد أبنائك، أترعرع بالقرب من قلبك.. ليتنى طفل صغير يحتمي بحضنك من همّ الحياة وضيقها.

      28_12_2012

      سوسن..

      لقد أخلصتُ ولكن الأقدار سارت عكس ما أملت. هل أقول أملنا؟ ليحفظك الله من كل شر، وليجرِ ماء الصبر في قلبي وقلبك حبيبتي.. سيبقى اسمك محفورا في ذاكرتي مشكّلا أخدودا جانباه الحب والوفاء.. اهتمي بكل من يتألم فهو يمثل قلبي.. أعرف أنك ستكونين طيّبة مع المرضى.. لطفا بمن يتألمون أيتها الزهرة الجذابة.      تذكرين يوم سألتك عن  معنى اسمك فقلت لي هو اسم زهرة جميلة.. سألتك: فقط؟! قلتِ: فقط وابتسمت.. قلتُ لك: زهرة جميلة و طَيِّبةُ الرَّائحةِ، والأهم يُسْتَخْرَجُ منْ جُذورها مَواد طبِّيَّة.

      أترين؟! ليست مصادفة أنّ اسمك سوسن.

      10_01_2013

      أرغب في أن أكتب لك أيَّ شيء يخطر ببالي حتى لو كان تافهاً وبسيطاً، ومازلت أحلم بأن تصلني رسالة منك.. اكتبي لي أي كلام واتركيه هنا، وإذا لم ترغبي فأخبريني على الأقل أنك تقرئين ما أكتب.. أقصد ما يكتب قلبي لأني دائماً حدّثتك من قلبي دون أن أتصنّع الكلام.. هل تذكرين يوم المولد النبوي بالمستشفى لمّا دعوتِنا لحفل في قسم الأطفال؟! لم أنس ضحكتك وفرحتك وأنت بين الأطفال تنبضين حباً وحيوية.. كنت أراقبك وأتساءل كيف سمحت لنفسي أن أفكر بالمجيء بك إلى هنا؟ أحسست أني مجرم، كيف خطر ببالي أن أسافر بك من بلد الأمان والسلام إلى غزة الخوف و الموت؟!

      يا لأنانيتي!! يا لبشاعتي!! كنت سأشنق ضحكتك.. هنا لا أحد يضحك يا حبيبتي، قد يبدو أنّ الشفاه تتحرّك لترسم ضحكة لكنه مجرد بكاء.. لم يترك لنا الموت فرصة للضحك.. مناسباتنا المفرحة مشاريع بكاء.. منذ دهر حلّق نسر الموت العملاق فوق سماء غزة.. حلّقَ قريبا من مستوى سطح الفرح.. قطف  ضحكات الأطفال والنساء والشيوخ والمحبين.. طار بها عالياً. ليس عدلاً أن أجعلك تقاسمينني حياتي المرة لكني صدقاَ تمنيتك زوجة ورفيقة درب، ويوم تقدمت لطلب يدك كنت أعرف ردّة فعل والدك لكني أردت أن أرضي قلبي.. قلبي الذي تفجّر نهر أحزان حين قوبلت بالرفض.. أريد أن أبقى في غزة ولا أتركها أبداً، وهذا الأمر سيكون صعباً بالنسبة لك ولعائلتك.

لن أستطيع مغادرة غزة مرة أخرى أبداً.. ربما لن أحظى بشرف الدفاع عنها لكن سيكون لي شرف الموت فوق ترابها. مشكلة الحب يا سوسنة قلبي أنّه متناقض وغريب، وإلاّ فكيف تفسّرين أنّني أريدك معي ولا أريدك معي.. أخاف عليَّ من غيابك وأخاف عليك من حضورك.. أريدك أن تحميني منّي، من عشقي، وأريد أن أحميك من الموت.

      هنا الموت والحياة صديقان حميمان لا يفترقان.. مترافقان دائماً.. يبدآن النهار معا وينهيانه معاً. يرتشفان قهوة الصباح والمساء معاً، وعندما نذهب ليلاً إلى النوم، يتمدّد الموت عند أقدامنا، يغمض عيناً واحدة ويصوّب عينه الأخرى نحو قلوبنا.

      متى تكتبين لي؟ متى تقولين كلمة تنفضين بها غبار الحزن عن قلبي؟!

      06_07_2013

      ترقّبت قدومك إلى غزة.. أعرف حبك لفلسطين، وطنك الثاني.. انتظرت بأمل قوافل الحرية وشريان الحياة.. وصلت عدة قوافل نسائية ظننتك ستكونين فيها.. سمعت بوجود ابنة بلدك السيدة صباح غيغيسي أسيرة لدى العدو الصهيوني.. قيل لي إنها امرأة عظيمة داعمة للقضية.. هل تذكرينها؟ أخبرتني يوما أنك تعرفينها وأنها من مدينتك.

      حاولت مرات عديدة الوصول إلى الوفد الجزائري الذي كانت معه لكنني لم أوفق.. ومع أني التقيت بعدة أفراد من وفود أخرى فإنَّني حزنت لعدم وصولي إلى السيدة صباح والحديث معها.

      كأنّني كنت ألتمس حنيناً لأرض احتضنتني وتركت فيها قلبي.

      أخبريني هل تصلك رسائلي ولماذا لا تردّين أبداً؟

      27_08_ 2013

      أنا سعيد لأن الإنسان الذي بداخلي حيّ رغم إعصار الموت وسيول الدم و الدموع، و إن كان هناك ألمٌ فهو ألم حبك إذ كيف لي أن أهنأ و أنت بعيدة.

*  *  *

      رفعت رأسي عن الحاسوب وقد اختنقت بالدموع.. سيف!! انقبض قلبي.. عاودتني نفس الغصّة التي شعرت بها يوم قرأت نعيه على لائحة الإعلانات في بهو المستشفى.. صُدمت.. اتصلت بأمل، صديقتنا الفلسطينية.. قلت: لعلّ في الأمر خطأ، لكنها أكدت الفجيعة.

      أخبرتني أنهّ استشهد يوم 20 يوليو 2014، أثناء مجزرة ارتكبتها مدفعية الجيش الإسرائيلي بحيّ الشجاعية شرق مدينة غزة. كانت عائلة سيف وكثير من الأهالي فارين من الموت، بعد أن طالبهم الجيش المحتل بالتوجّه نحو وسط غزة وعدم العودة إلى المنازل حتى إشعار آخر، لكن قصفاً مدفعياً جباناً مباغتا قضى عليهم جميعا وهم نازحون نحو مستشفى الشفاء.. كان سيف من بين الذين لم يتم التعرف على جثثهم إلاّ بصعوبة لما أصابها من حرق وتشويه.

      تعلّق سيف بي أثناء عملنا معا في مستشفى بالعاصمة، وأحببته أيضا.. حين أخبرني أنّه سيزور أبي ومعه الإمام لنعقد قراننا ثم نسافر إلى غزّة، لم يبدُ لي الأمر غريبا أو غير مقبول، خاصة أنّه دخل بيتنا رفقة أخي وأكل ملحنا وخبزنا وتعرّف بأهلي… والدتي لم تمانع لكن أبي رفض بشدّة.

      .. قال لي: “لنضع جانباً شرف كونه فلسطينياً ومن غزة بالذات، كيف أوافق على زواجك من رجل يأتي لطلب يدك بنفسه ومعه إمام المسجد؟!”

      ..نعم.. لا الأعراف ولا التقاليد كانت ستسمح بذلك، وكانت عائلتي ستصبح موضع حديث وتندّر كل البلدة.

      صارحت سيف بالأمر وافترقنا مستسلمين للواقع.. تابعت حياتي ولم يبق لديّ من علاقتي به سوى طيف ذكرى جميلة.. لم أتلق منه أيّة مكالمة ولا رسالة- هكذا اعتقدت- ولم أره مرّة أخرى.. خمّنت أنّه نسيني وعاد إلى غزة وقرّر الخروج من حياتي بهدوء لكيلا يسبّب لي أيّ أذى.. لكن ها هي رسائله.. هنا.. أمام عيني.. بأثر رجعي. تهمس في أذني: يموت العشاق و لا تموت رسائلهم.

Font Resize