13 April, 2025

قواقع الوحوش العابرة – بقلم عبد الباقي قربوعة

عمامتُه مزخرفة بإمضاءات عتيقة تعود إلى ألف جد، لفَّه حول رأسه لم يترك سوى عينيه، فعل ذلك ليخفي شفتين أنهكهما العطش!

         السماءُ تشهد أن الأرض تخبّئُ للأبرياء الحياةَ الجميلة، لكنها يدٌ خشنة قبضت على سواقي المدينة فجأة، ثم حوّلتِ الماءَ إلى فم تمساح غاشم لا يرتوي.

         غسّان لا يزال يمشي يبحث عن الماء، التمساح يُبرز أنيابه على مشارف الينابيع، غسّان كانت ألعابُه منسجمةً قبل أن يسحب التمساح بطنه ويسحق العشب والياسمين.

         المكان مصر على قداسته، الأذان يطلع كلمّا تعطّشت الأرواح إلى الدعاء، ودائما التمساحُ يكره الصلاة والخشوع، غسَّان يظل يرجمه بالحجارة كلَّ حين، يصلِّي باستمرار تحت شجرة الزيتون صلاةَ الخير والنماء، تنمو أشجار الزيتون بأعجوبة دون حاجة إلى الماء!

         غسّان ينامُ بعين واحدة لا يأتمن أنيابَ التمساح، يستيقظ فيقصُّ على الأطفال ما رآه في غفوة البارحة:

         – رأيت يا أطفال أني ألبس بُرنساً عجيباً، وكلما فتح التمساح فمه غطيت بجناحيه قُبّة الأقصى!

         التمساحُ يقتلع الأشجار، ويحفر في الأرض، يبحث عن حياته الغابرة، غسّان بفائق اليقين يشرح الحقيقةَ للآتين، يوصي الأطفال بالأقصى خيراً:

         – شُدّوا عليه بالنواجذ فلكل حيٍّ وطن!

         تطاولت بيوتٌ بِيضٌ تشبه القواقعَ الخاوية، وتهاوى البيت الذي كان يخبّئُ زيت الزيتون والزّعتر لأيام الشتاء القادم:

         – لا تخافوا من التمساح، فتلكم البناءاتُ الرقْميةُ لعبةٌ كرتونية، والأقصى لا يزال لنا، والماء وأشجار الزيتون!

         غسّان يطوفُ بين الأحياء العتيقة، يناشد الأطفال كي تنبض قلوبُهم بدم الأجداد، وتتنفس كعادتها الدعاء والأذكار، يذكّرهم كل مرّة بألعابهم الخالدة:

         – أقسمُ بالله أن هذا التمساح يخاف من صراخ كلِّ مولود جديد!

         غسّان يثيرُ لعاب كل الزواحف المفترسة، لأنه مصرُّ على إعادة استقامة أشجار الزيتون، التمساح يتنكّر بلون الطّين، لكنْ تفضحُه لعبة الأطفال كلما انتشرت، لهذا يتحمّل غسّان عطش السنين، هكذا يظل يوصي الأطفال بأن يفعلوا مثلَه ويواصلوا لعبتَه المقدسة!

         عندما يقص غسّان حكايةَ طيور الأبابيل يسخر الأطفال من الدبّابة “الهامر”!

         – أهلُ الأرض يا أطفال يجب أن يقاوموا حتى تطهَر من دنسِ هذا التمساح!

         هكذا يعلّمُ غسّانُ الأطفال والأقصى صامدٌ يشد بجذور الفتوحات المقدّسة، بحجم هذا اليقين يقترب غسّان من التمساح الهائج في أطيان الصّالحين، وكل مرّة يركله ليبعده عن ماء الحياة والوضوء، لكنَّ التمساح كلّما بلع حجرة اكتسى لوناً جديداً وراح مجدّداً يطارد الأطفال:

         – عجباً لهذا التمساح لا يأبه بالقدر ولا يشبع من الحجر!

         هكذا يظل غسّان يحثُّ الأطفالَ ليسترجعوا من بطن التمساح كلَّ ألعابهم المفقودة!

         لا يزال غسّان يزأر بالحق، يدوِّي كما الرّعد في وجه التمساح، يطلقُ عليه كلماتٍ أكثرَ وقعاً من قذائف الهاون، التمساح لا تزال عيناه على غسّان، وكلَّ حين يحاول رفس رأسِه ولحسَ دمِه.

         غسّان كلّما أقام الصلاة ارتعش التمساحُ في وحَلِهِ، وكعادته الجبانة يقف لا يستوعب شيئا:

         – عجيبٌ أمرُ هذا الرجل، فكلما سجنّاه حوّل الزنزانة إلى مصلَّى فسيح!

         يغضب التمساح ويفتح فمه إلى أقصى حدّه، وكلما توعّده بالإعدام فشل غسّان في إخفاء فرحته، فيضطر التمساح إلى إلغاء قراره، في النهاية حرك ذيله الشائك وأثار المكان، فأزاح الرجل عن مسقط روحه، لم يكن الأطفال يدرون أن لسان التمساح سيصلُ إلى حيث نُفي بعيداً، وعندما سمع العالم دويَّ انفجار سيارته رفع الأطفال أصواتَهم أكثر:

         – قد فهمنا ووعينا فادخلْ جنّتَك مطمئناً يا غسّان فنحن آتون، آتون..

         ردّدوا ذلك وتركوا خلفهم قبر غسّان مستنيراً، وفي الشارع المحاصر انهمكوا كالعادة يجمعون ذخيرتَهم من الحجارة.       التمساح شعر بالرعب:

         – ويحي هل تستوعب غريزتي كلَّ هؤلاء الأطفال؟!

         الأطفالُ جمعوا عُدّتهم المعتادة وشكّلوا حلقة حول الأقصى، وهم محيطون به فكأنهم ذلك البرنس الذي رآه غسّان في الرؤيا.

Font Resize