23 March, 2025

فتون – بقلم محمد الخوالدة

إنها  الساعة السابعة مساء ، لقد تأخر أبي كثيراً هذه المره، قالتها فتون بنت العاشرة ويداها ترتعشان، لم تعد تقوى على سماع أيِ خبرٍ مفزع.

سيحين وقتُ أذان المغرب وأبي لم يحضر، يا إلهي!!  أبي أبي.

ها هو ستار الخيمة يكشف كم فرحت فتون برجوع أبيها إليها،  ففي كل مره يعود هو بمنزلة عودة الحياة لها،  لقد تأخرت كثيراً  يأبي، لقد أعددت طعام الإفطار،  كنت سأبقى في الصيام لحين عودتك.

فرح الأب أيضاً برجوعه سالماً، فلقد انتهت الحرب منذ عام، وبقيت هناك بعض ندوباتِها وجروحاتِها هنا وهناك، ونقاط تفتيش في كل زاوية وقصف عشوائي بين الحين والآخر.

واحتجازات في كل يوم.. إنها الحرب اللعينة.

صنعت فتون إبريق شاي ساخن، إنه لك يا أبي هدية رجوعك سالماً.

اندهش الأب..  ومن أين حصلت على السكر يا بنتي؟!! فلا يوجد أحد عنده السكر فهو مفقود منذ شهر؟!

قالت له: اخفض صوتك يا أبي ، لقد ادخرته من الأشهر السابقة، كانت كأس الشاي كأنها احتفال برجوع الأب سالماً منذ يومين خلت.

وأنا يا بنتي عندي لك مفاجأة  عظيمة، أخفيتها عنك منذ عام، ولم أحصل عليها إلا اليوم.

ما هي ما هي يا أبي؟! قالتها فتون وهي تسرق الفرح من ثغر الحربِ ومن فم الجوع.

لا  لن أقولها لك حتى ننهي شربَ الشاي الساخن الذي أعددتِه لنا  في هذا الجو البارد.

يرتشف الأب  من كأس الشاي، ويقول بنبرة حزن: يا فتون! كانت أمك  رحمها الله تُعد الشاي بنفس ها الطعم.. لقد ورثت منها دقة وضع السكر يا بنتي.

فقالت فتون ممازحة ومهدأة لكلمات أبيها: كلنا راحلون يا أبي عن هذه الدنيا ولن يبقى منا أحد.

قال الأب: صحيح يا بنتي، ولكن في القلب حزن ووجد على من فقدانهم يعتصر قلوبنا بين كل فَينة وفينة.

هيا يأ أبي، لم لا تقول لي ماذا أحضرت لي؟! وما هذا الشيء الذي منذ عام وأنت تذهب إلى مراكز المساعدات تبحث عنه؟! هيا يا أبي، أهو مهم لهذه الدرجة؟!

كانت فتون فتاة متفوقة علمياً.. شديدة الذكاء.. تحب الحياة.. تصنع من الحزن بقايا فرح.. تبعث في النفس العزيمة والإصرار  على الحياة.

حسناً حسناً يا بنيتي، ولكن هل بقي عندك من هذا الشاي  اللذيذ، وهل يا ترى بقي ليوم غد شيء من السكر.

لا تخف يا أبي، هناك ما يكفي ليومين أو ثلاثة، لقد أعطتني جارتنا  في المخيم كيسا فيه بعض السكر، وجدت في بقايا منزلها كيسا هناك.

ضحك الأب متأملاً كل ماحدث وكيف كانوا يعيشون في بيوتهم فرحين مطمئنين، ولم تكن قضية مثل قليل من السكر تشغل بالهم أو تكون حديثاً لسمرهم ومهماً لهذا الحد.

لقد حصلتُ على الموافقة من مركز المساعدات، وسيُكشَفُ عليك غداً إن شاء الله  ليعطوك  طرفاً صناعياً.

ماذا تقول؟!! قالتها فتون بلهفة يشوبُها الحزن والقهر، هل هذا صحيح؟!
كم أحبك يا أبي!! ومنذ عام وأنت تذهب في الأسبوع مرتين تطالب بطرف صناعي لي!!

كم أنت عظيمٌ يا أبي!! قالتها بنت العاشرة، وكان كلامها يمزق قلب أبيها، فلقد فقدت يدها اليسرى أثناء الحرب، وفقدت أمها وأخويها كذلك،
فكان أبوها يبحث  عن أي شيء يبعث في نفسها البهجة ويساعدها على الاستمرار في حياتها.

إن لعنةَ الحروب تلاحق الناس في حياتهم وتحفِرُ في قلوبهم ندوبا ومآسي لا تندمل.

.. ففي كل أسرة في غزة هناك آهات تخرج من كل خيمة لتعانق السماء، وتشكي لخالقها ظلم البشر وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فالعدالة في السماء والظلم في الأرض.

فتون موجودة في كل مكان حولنا وفي أنفسنا  التي تعبت من ويلات الحروب، فإلى متى ستبقى البشريةُ تدفعُ حياتَها مقابل الجهل و الظلم.      

رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=14528

Font Resize