14 April, 2025

فتـاة بعمــر أم – بقلم بهية كحيل

تسللت برقة خيوط الفجر الأولى معلنة بزوغ الصباح، ومع انبلاج أول شعاع ضوء، تكاثفت قطرات الندى وتلألأت فوق السطوح الخُضر.

    تململت البراعم، واندفعت بقوة الضوء، والشمس، والحياة، وتفتحت عن أكمامها.

    دائماً وأبداً مازالت البراعم تتفتح، ومازال الندى يتكاثف ومازالت الدماء تروي هضاب فلسطين.

    ها قد عاد الرعاة، علت جلبة، ورنت أجراس، تزاحمت الخراف على المنعطف (المنعطف ذاته الذي شهد تزاحم مئات المشردين في عام النكبة) ثم انتشرت على المنحدر الأخضر.

    نبحت الكلاب، وصدح في البعيد صوت ناي حزين، وكان بإمكان المارة أن يشاهدوا انطباع جسدين على العشب.. كانت بينهما بحور من العفة، وجبال من الطهر، وهو يحكي لها عن أرضه، عن أشجار الزيتون في حقله، عن بيارته وعن الموسم الذي ينتظر، عن المنزل الذي بناه، وعن السور المنيع الذي أحاط به مزرعته.

آه يا عزيزتي!! قالها بحرقة، غداً سنذهب في جولة عبر الأنفاق، وسنرصد تحركات العدو.. ساعة الصفر لا ريب آتية، والعد التنازلي بدأ.

    نهض محتداً، رفع يده نـحو السماء مقسماً (بحق كل قطرة دم أريقت، بحق دمعة كل طفل ولوعة كل قلب، بحق الأمهات الثكالى سنكسر شوكتهم ونـحطم أسطورة هؤلاء الأوغاد.)

    جلس القرفصاء وبصوت أقرب للهمس قال لها: تضاءل الزمن الذي يفصل بين مأساتنا وعنجهيتهم.. وإني أشتمُّ رائحة الأرض التي ستعود..

    نظرت إليه بإجلال وإكبار فداعبها بمحبة ثم تشابكت أيديهما ورحلا كنسمة باردة في ليلة حارة.

    .. ساعات وكان للجحيم مكان على أرض غزة، لمعت السماء بلون الموت، تلاعب الأوغاد، بأقدار الأبرياء.

    هُرع الصبية يتفرجون.. بدا الأمر وكأنه مهرجان للفرجة، ألعاب نارية، قنابل انشطارية، عنقودية، فوسفور أبيض.. فاحت رائحة الأجساد المحترقة، وعلا نـحيب من بقي على قيد الحياة، ثم فتحت أبواب جهنم..  قصف عشوائي نال الشجر والحجر.

    تدافع الناس بين الأزقة، وأسرعت الفتاة مع مجموعة من ناشطي الدفاع المدني تمدّ يد المساعدة للمنكوبين، سحبت ابن السابعة من تحت الركام.. وهُرعت به بين الخراب، لم تكد تصل سيارة الإسعاف حتى فاضت روحه إلى بارئها.. افترشت الأرض، حملقت به ذاهلة، ضمته بلوعة.. مسحت على شعره ثم أودعته بين آخرين ضاقت بهم سيارة الإسعاف.

    في المشفى القريب سارت فوق الجثث.. أنين الجرحى غطى صوت الانفجارات المروعة التي هزت وسط غزة، فكانت رائحة البارود والحرائق التي عمت معظم المناطق دليلاً على ما حصل وإنذاراً بما لم يحدث بعد.

    الأطباء والمسعفون لا همَّ لهم سوى إنقاذ حياة، إيقاف نزيف، تنفس اصطناعي، صدمات كهربائية، كلها عمليات ساخنة، لعجائز يختنقون، ولمرضى يلفظون أنفاسهم الأخيرة.

    مرت الليالي ويد الموت تحصد الأرواح، وثلاجات المشافي بدأت تضيق بالجثث

فحفر قبر جماعي في باحة كل مشفى.

    .. ورأته ملثّماً بالبطولة، ومدججاً بالكرامة والعنفوان، يحمل مقاوماً أصيب.. أسرعت إليه، لمح في عينيها الشوق والأسى، وقرأت في عينيه الصمود.. لامست جرحاً نازفاً في جبهته، ولامس كفيها بحنان العالم.

    سننتصر.. قالها بثقة رجل ثم رحل على عجل.

    في رعاية الله وحماه.. قالتها بحرقة أنثى، واغرورقت عيناها بدمع غال.

    دوى صوت انفجار قوي، وتمدد الجميع أرضاً، فالانفجار كان قريباً جداً من المشفى، ثم غرقت غزة في بحر الظلام، إنها محطة الكهرباء.

    وعلى المحطات الفضائية، وقف العالم يتفرج على مذبحة بحجم شعب.

    رصدت كاميراتهم جسداً مسجى هنا، وآخر يلفظ أنفاسه الأخيرة هناك، أمّاً مفجوعة، وأباً يناشد حكّام العرب، من يستطيع إيقاف المجزرة..

    اغتيلت الإنسانية في أرض مهد المسيح، ومعراج الرسول، وتباطأ مجلس الأمن في إعلان وقف إطلاق النار فإسرائيل موعودة بوقت مستقطع من حياة شعب وأمة..

فار الدم العربي، وخرجت الشعوب تندد وتستنكر، وصمت حكام العرب، كعادتهم.. ثم خرجت شعوب الأرض كافةً تعبر عن غضبها، ورفضها.

    ازدادت قسوة القتلة، وازدادت حمم نيرانهم.. وبرغم كل هذا الدمار، لم يستطيعوا التقدم في أرض غزة الأبية.. استعصت عليهم، بأرواح شهدائها، ودماء أبريائها، وبطولة مقاوميها، ورعاية الله.

 

* * *

    هناك على المنعطف كانت تعبر ناقلة جند ودبابة، وكان يرصد مع مجموعة من الأبطال أن تصبحا في مرمى نيرانهم.. دقائق، وفتحت أبواب الجحيم.

    وكان للموت حصة فيما حدث.. قتلى وجرحى ودبابة مدمرة.. أما هو فقد حمله رفاق السلاح مضرجاً بدمائه، بين الحارات الضيقة إلى منزل كان فيما مضى عامراً.

    ربطوا له جرح ساقه بما توفر لهم، ثم أودعوه هناك مثقلاً بجراحه يئن من الألم.

    في اليوم التالي، وعلى دوي الانفجارات التي لم تتوقف، عبر الممر الضيق بمحاذاة الجدار، عجوز على أعتاب السبعين، ودخل المنزل الذي يخيم عليه صمت الأشباح، حاملاً معه القليل من الطعام والدواء، وأخبره: سيأتي الشباب ليلاً ليحملوك، فالطرق غير آمنة، والقصف لم يتوقف، لكننا سننتصر بإذن الله، كن واثقاً بذلك.. شفاك الله وحماك يا ولدي.

    سالت دموع كبرياء من عيني العجوز، وسارت في أخاديد حفرتها قسوة السنين الآفلة.

    -لا تبكِ يا جدي، فدموعك التي شهدت قطاف زيتون روابينا وليمون بياراتنا غالية.. دموعك التي كفنت شهداء مذبحة دير ياسين، وكفر قاسم، وأم الفحم غالية.. دعها يا جدي لوقت النصر بإذن الله، فقد بات قريباً.

    أيام.. وما زال العجوز يتردد بمحاذاة الجدار، غير عابئ برائحة الموت، يحمل حكايا بطولة من هناك، ويعالج جرحاً غائراً هنا.

 

* * *

    وعلى الطرف الآخر، بين أنقاض المنازل، وبعد ليلة قصف جهنمي، التقطت عدسات المصورين بقايا حياة، لعبة طفل نالتها الحرائق مازال الدخان يتصاعد منها.. حقيبة مدرسية ممزقة تنذر بمأساة جيل قادمة.. وحذاء بدا جزءاً من كومة تراب وحجارة، وفتاة يافعة تهيم بين الركام، تنادي أمها.

    .. أسرع الرجال يرفعون الأنقاض عن جسد امرأة في العقد الخامس، انـحسر الشال عن رأسها، وعلا الغبار شعرها فبدت بلا لون.. ماعدا جرحاً غائراً في جبهتها ورأسها تخثر الدم فيه، ووشى بإصابة قاتلة.

    صاحت الفتاة مفجوعة، وعلا نـحيب الصغار.. ثم تردد في الأسفل صدى صوت ضعيف يصارع الموت.. تكاتف الرجال، وأكملوا إزالة الأنقاض، والصوت الضعيف بات واضحاً مصراً على الحياة.. رفعوا الباب الخشبي الكبير الذي غطى سريراً حديدياً كان فيه طفل صغير.. هُرِعت الفتاة ونادته بلهفة، إنه أخوها الذي لم يكمل بعد عامه الأول.

    ضمته إلى صدرها بلوعة، وبكت بحرقة، ثم مسحت على شعره بحنان أم، وأدركت ثانية أنه ليس هناك وقت للدموع.

    في الغد نصبت خيمة قرب أنقاض منزلهم، أبت إلا أن تبقى قرب منزلها المهدم، تنتظر عودة والدها من ساحات القتال.

    ونقلت وسائل الإعلام صورة لخيمة صغيرة ضمت عدة أطفال، وفتاة بعمر أم!!

    طبعت الأيام الماضية على وجهها مرارة المأساة، وتناست أحلاماً بَنَتْها ذات يوم.

    وحده الطفل الصغير، انتشلها من بؤسها، داعبها بهمهمات.. ناغى.. هدهدت له، فغفا على صدرها.

    مرَّ رجال قرب الخيمة، وسمعتهم يقولون إن الجيش الإسرائيلي سينسحب جارّاً أذيال خيبته، موسوماً بالهزيمة، ملطخاً بالعار.

    نظرت إلى البعيد، فرأت صورته فوق الأفق وتساءلت هل سيعود؟!

    انتشر الناس يرممون جراحاً نزفت بغزارة، فقد اعتادوا على مدار السنين أن تنكأ جراحهم، وأن يرمموها.. ألفوا الموت وفراق الأحباب، وعرفوا كيف يبدؤون من جديد.

    رفضت الفتاة أن تلجأ إلى مقارّ المنظمات الإنسانية.. هنا ستنتظره ولو طال الانتظار.

    ستزرع ياسمينة قرب خيمتها، ومنزلها المهدم، وتحكي لها عن أحلامها المغتالة،  ستسقيها كل صباح، وهي تطعم الطفل الصغير، وسترقب عودته دائماً.

    وذات صباح، رأته قادماً، يمشي الهوينى، متوكئاً على جَلَدِه، مستعيناً بصبره.. فإصابته لم تشف بعد.

    توهج الضوء، واستحال طاقة تسربت إلى عروقها، كريح صيفية في ليلة حارة.. دنا.. عانقته بعينيها، فاحتضنها بمقلتيه، تفتحت آلاف الورود ورفرفت مئات الفراشات.

    تمايلت الخزامى، وهمست للأقحوان بحكاية عشق أبدي.

    هُرِعت إليه، لكنها لمحت في عينيه حزناً دفيناً، ودمعة لمعت ثم توارت

بحدس كل امرأة فلسطينية، أيقنت بالكارثة، وبأن فجيعة ستحل بها..

    أخرج من جيبه نظارة أبيها الطبية، صرخت بألم.. تحشرج الصوت وانبثق أنيناً مذبوحاً، تدافعت النسوة وحملنها إلى الخيمة.. غاب كل شيء إلا صورة والدها قبل الحرب، يوم ودعهم ورحل على عجل مدججاً.

    تحلّق الصغار حولها يبكون يُتمَهم.. حبا الصغير نـحوها، ودفن وجهه في جِيدها.. أحست به فضمته إلى قلبها..

    وشهدت الصباحات التالية حركة دؤوبة في الحي كله لإزالة الأنقاض..  أما هو فكان يعمل بطاقة عشَرة رجال.

    حملت له كأسا من الشاي الساخن، نظر إليها بعمق.. بحبّ.. ثم أخذها من يدها بحنان، وذهبا معاً إلى بيت من بيوت الله.

    وقرب الجدار المهدم، وعلى سجادة احترق نصفها، عَقَد قرانَهما إمامُ المسجد وبارك زواجَهما رجالُ الحي..

    عادت مسرعة لتُعد لهم الطعام، ولتربِتَ على كتف الصغير ليغفو.

    كانت عروساً من نوع جديد، لم ترتدِ ثوب زِفاف أبيض، ولم تضع تاجاً من الألماس.

    لكنهما في المساء سارا معاً بين الحقول، فأضاءت لهما السماء آلاف النجوم، ونشر القمر نوره الفضي، فلمعت زهور السوسن..

    بحث عن أوراق غار هناك، قطفَ زهوراً من هنا، وصنع لها إكليلاً  ثم توَّجَها أميرةً على قلبه.. لمح دمعة تسيل على خدها، فمسحها برفق.

    لا تبكي حبيبتي، فالدموع لم تُخلق لنا.. إنها للضعفاء فقط.

    نظرا معاً إلى البعيد، إلى خلف التلال، حيث اعتادت الشمس أن تشرق كل يوم من جديد.

Font Resize