كان وقت الظهيرة والشمس حارقة، وصفٌّ طويل من السيارات الجميع ينتظر دوره في التفتيش، داخلَ إحدى السيارات كان محمد خلف المقود في نقطة التفتيش كالمعتاد.. كان يتصبب عرقاً، ترتعش يدُه وهو يحاول أن يمسك بيد زوجته الجالسة بجواره، يحاول بصوت مرتعش أن يطمئنها.
– ريم!! لا تقلقي دقائق وسنصل إلى المشفى.
أجابت ريم وهي تكتم صرخاتها بصعوبة: لقد سمعتُ هذه الجملة خلال الأربعة تفتيشاتِ السابقة.. آآآآآه ، أخشى أن تموت طفلتي.
قال محمد وهو يشعر بالخزي والهوان والضعف لعجزه عن رفع هذا الظلم عن زوجته: أعتذر منك ولكن اطمئني، ابنتنا ستولد بخير إن شاء، الله لا تقلقي.
– أنا أنتظر هذه اللحظة منذ سنوات، وأخيرا استجاب الله لدعواتنا وسنرزق بطفلة، أرجوك افعل شيئاً لا أستطيع الصمود أكثر من ذلك.
هنا قطع كلامَها صوتُ دق على النافذة المجاورة لمقعد زوجها، تحدث الجندي الصهيوني باللغة العربية بصعوبة شديدة، ظل دقائق يفتش في أوراق محمد ودقائق أخرى يفتشونه تفتيشا ذاتياً.. كل تلك المشاهد أمام أعين زوجته الحامل في شهرها الأخير بعد سنيين من محاولتهم الإنجاب، لم تستطع ريم كتم صرَخاتها أكثر، وأخيراً أطلقت صرخة مدوية هزت الطريق بأكمله.
.. هل هي صرخة من شدة ألم المخاض؟! أم صرخة من شدة ألم الهوان والضعف والخزي الذي ترى فيه زوجها يعامل هكذا دون أي آدمية داخل أرضه؟؟!
بمجرد سماع زوجها لصوت صرختها خر راكعا على ركبتيه يتوسل لهذا الجندي الصهيوني يترجاه ودموعه تنهمر على وجهه كالمطر.
قال محمد: أرجوك دعنا نمر فأوراقنا سليمة وقد تم تفتيشنا أكثر من مرة، ثم نظر إلى زوجته التي تتألم بأعين دامعة.
زوجتي في وضع المخاض وقد تلد في أي لحظة أرجوك دعنا نمر.
أتت جندية من الخلف وتحدثت إلى زميلها: دعهم يمرون لقد تأذت أذناي من صرخاتها المستمرة، وأخشى أن تلد هنا وتلوث الطريق بدماء جنينها.
قال الجندي وهو ينظر إلى زميلته وهو يضحك: حسناً من أجل أذنيك سأجعله يمر.
ظلت ريم تمرر يدها على وجه زوجها الجالس بجوارها تمسح دمع عينيه وهي تبكي ألماً
محمد: لا بأس أنا بخير.
وضع يده على بطن زوجته وقال: تحملي قليلاً يا بنتي كدنا نصل، لم يتبقَّ سوى القليل.
داخل حجرة ناصعة البياض جلست ريم على سريرها وبجوارها زوجها حاملاً ابنته الصغيرة وحولهم جميع أقاربهم سعيدون لفرحتهم.
محمد مخاطباً زوجته: هيا أخبريني أيَّ اسم قررتِ أن نطلق عليها.
ريم وهي تحمل ابنتها من زوجها وتضم يدها الصغيرةَ وتقبلها غزة.. قررتُ أن اسميَها غزة.
– أتمنى أن تصبح ابنتي صامدة وقوية مثل مدينتنا المحتلة…
داخل حديقة منزلهم الصغير كانت ريم مع ابنتها تلعبان معاً، ريم بصوت عالٍ وهي تصرخ: محمد محمد محمد.
يخرج محمد راكضا لحديقة منزلهم.. ما بك ماذا حدث؟
– انظر..
كانت غزة واقفة على قدميها ولأول مرة تخطو خطواتها الأولى، بكى والدها فرحاً، وظل يشجعها: هيا يا محاربتي الصغيرة تقدّمي نحوي هيا تعالي إلى والدك.
غزة ولأول مرة وهي تُتعتع: بباااا باباااا ببباااا
محمد وهو يحضنها ويدور بها: هيا أرغب في سماعها مراراً وتكراراً، رددي بابا بابا بابا.
ريم: لا أصدق ما أسمع هل قالت للتو بابا؟!
محمد وهو يضحك: لا تحزني بالتأكيد سيأتي يوماً ما وتنادي اسمك..
أمام بوابة الروضة وقفت ريم وهي تمسك يد صغيرتها التي تحمل حقيبة صغيرة على ظهرها.
محمد: هيا يا ابنتي ندخل لقد تأخرنا بالفعل.
غزة: أمي هيا ادخلي معي.. إنه يومي الدراسي الأول.
– ليس بعدُ يا صغيرتي، محمد هيا اجلب الكاميرا من السيارة يجب أن أوثق أول يوم لطفلتي الغالية في مسيرتها التعليمية.
قامت الأم بتوثيق فيديو لابنتها وهي تصورها.
ريم: غزة اخبريني ماذا ترغبين أن تصبحي عندما تكبرين؟!
قالت غزة وهي تضع إصبعها على رأسها لتفكر: أريد أن أصبح طبيبة.
ريم: ولمَ طبيبة بالتحديد؟
غزة: حتى أعالج الألم وأخففه عن الجميع دون مقابل…
داخل منزلهم الصغير ذي الطابقين كانت غزة تركض على الدرج بفستانها الأبيض وشعرها الأسود الطويل يتطاير من خلفها وعيونها التي يشبه لونها لون غروب الشمس، وقفت أمام المرآة تتهندم نفسها للمرة الأخيرة قبل خروجهم.
غزة: أميييييي هيا سنتأخر..
قالت ريم وهي تنزل من أعلى الدرج وتلف حجابها: لستُ أنا يا طفلتي مَن يسبب تأخيرَنا.
– أولاً أنا لست طفلة.. اليومَ أتممتُ المرحلة الابتدائية، وثانياً أنت لم ترتدي حجابَك بعد.
وأبوكِ أيضا مازال يرتدي ملابسه
محمد: لقد انتهيت..
ريم: وأنا أيضاً انتهيت هل أنت سعيدة الآن؟!
غزة: وأخيراً، هيّا بنا.
ريم : انتظري هدية عيد ميلادك
غزة في انبهار وتعجب: ما هذا !!!
محمد وهو يُخرج من داخل علبة هدايا حذاء وردياً لامعا: إنه الحذاء الذي أعجبك منذ عدة أيام ونحن داخل المحل.
غزة وهي سعيدة: شكراً جزيلاً لكما لم أتوقع أن تلاحظا إعجابي يومَها بهذا الحذاء.
ريم وهي تقبِّلُ طفلتها: حبيبتي بل نحن من نشكر الله يوميا لكونك ابنتنا.
جلست الصغيرة وكلٌّ من والديها يمسك قدماً ليلبساها حذاءَها وهما فخوران بابنتهما.
….داخل قاعة مدرسية وقفت مديرة المدرسة حاملة شهادة تقديرية ونادت وهي تحمل الميكروفون: والآن حان وقت تكريم الطالبة المثالية والمتفوقة الحاصلة على المركز الأول في المرحلة الأساسية الابتدائية الطالبة غزة محمد.
ركضت غزة بحذائها الوردي اللامع وفستانها الأبيض نحو منصة التكريم لتستلم شهادتها تحت تصفيق حار من الجميع وزغاريد أمها وصفير صديقها حمزة محاولاً تقليد أباها.
بكى والدها فخراً لتفوق صغيرتهم.
عادت الأسرة الصغيرة إلى منزلها لتحتفل بتفوق ابنتها وأيضاً بعيد ميلادها الذي صادف يوم تكريمها، وأقامت حفلاً صغيراً في حديقة منزلها مع الجد والجدة والخالات والأعمام وبعض الجيران.. أحضرت الأم قالباً من الكيك والتفَّ الجميع حول الصغيرة والتقطوا الكثير من الصور لتخليد تلك اللحظات السعيدة القصيرة، أكلَ الجميع وسط سعادة غامرة.. ركضت غزة في الحديقة مع جارهم حمزة.
جلست غزة على أرجوحة صغيرة معلقة على شجرة في حديقتهم: حمزة أخبرني هل عاقبك والدك؟!
– ولمَ يعاقبني؟!
غزة وهي تضحك: ربما لحصولك على المركز الأخير اليوم.
– هذا ليس سبباً كافياً لعقابي.
غزة في تعجب: يا لك من ولد مدلل!
حمزة بغضب: أولاً أنا لست ولداً، وأنا ابنهم الوحيد ولا يعاقباني على تأخري الدراسي .
غزة: لا تحزن أنا أمزح معك يا ولد.
حمزة وهو يغادر متأففاً: مزاحك سيِّئ لن أجالسك بعد الآن.
غزة وهي تركض خلفه: أعتذر منك أنا أمزح معك، هلا سامحتني؟
حمزة وهو مبتسم لها: لا أستطيع أن أرفض لك طلباً، ولذلك لقد عفوتُ عنك.
غزة: وأنا بالمقابل قررتُ أنا أذاكر معك لأساعدك في دراستك.
حمزة: أنت تمزحين أليس كذلك؟!
غزة: بالطبع لا.
حمزة: حسناً سأخبر أهلي بذلك.. سيسعدون كثيراً.
غزة راكضة خلفه في حديقة منزلهم: انتظرني سآتي معك.
اقتربت ريم من والدتها: أمي سأذهب إلي بقالة العم أحمد.
حمزة: ريم انتظريني.. أرغب في الذهاب معك.
غزة مبتسمة: لا سأجلب لك معي الكثير من الحلوى انتظرني هنا
محمد: غزة انتظري…
غزة عند بوابة الحديقة وهي تنظر مبتسمة إلى الجميع، ثم إلى والدها : سآتي بعد دقائق يا أبي لن أتأخر.
…..داخل قاعة مدرسية والمديرة تحمل شهادة تقديرية: رحبوا معي بالطالبة المتفوقة الحاصلة على المركز الأول في الشهادة الثانوية: غزة محمد.
وقف حمزة بجانب والدها وقد أصبح شاباً وسيماً يصفر مع والدها ويصفق لتشجيعها، بينما تعالى صوت زغاريد أمها في أرجاء القاعة وهي فخورة وسعيدة بتفوق ابنتها.
عادوا جميعاً إلى المنزل ليحتفلوا بنجاح ابنتهم.
محمد: هيا يا ابنتي أخبريني، في أي كلية ستلتحقين؟!
غزة: كلية الطب يا أبي.
ريم: هذا حلمك منذ الطفولة الحمد لله على كرمه وفضله في تحقيق حلمك يا ابنتي.
محمد محدثاً حمزة: وأنت يا بني ماذا قررت؟!
حمزة ممازحاً: قررت أن أكون زوجَ ابنتكم.
ريم وهي تضحك: أعتذر منك ابنتي أمامها مسيرة تعليمية حافلة.
حمزة بجِد: سأنتظرها حتى الممات.
محمد: يا بني أقصد ماذا قررت أن تتخصص؟!
حمزة: في مجال التدريس إن شاء الله.
ريم: وفقكم الله يا صغاري…
……
داخل حديقة منزلهم كان والداها يتناولان طعام الفطور، خرجت عليهم غزة قبل أن تذهب لأول يوم عمل لها.
محمد: لا أصدق عينيّ.
ريم: وأنا أيضاً.. وأخيراً تخرجت ابنتي وأصبحت طبيبة.
محمد: غزة أصبحت أكثر جمالاً في الرداء الأبيض.
غزة: أبيييييي كفى، لقد أخجلتموني.
ريم: بمناسبة الخجل اليوم سيأتي العم أبو حمزة ليحدد معنا موعد زفافكما.
ريم وهي تبكي وتمسح دمع عينيها بيديها: لا أصدق أن ابنتي أصبحت عروساً وسأراها بالفستان الأبيض…
على أريكة رماديه مدت امرأةٌ يدها بمنديل نحو ريم والكاميرات حولهم تصور حوارهم وقالت المذيعة: أعتذر أنّ حلمك لم يتحقق.
ريم وهي تمسح دموعها وبيدها الأخرى تحمل حذاء ابنتها الوردي الملطخ بالدماء: لا بأس هذا حال جميع أطفال غزة، فأطفالنا لا يكبرون حتى يحلموا… أطفال غزة يموتون صغاراً.
المذيعة: هلا نكمل حديثنا.
ريم: أخبريني ماذا تريدين أن تعرفي؟
– كيف ماتت غزة؟
نظرت ريم إلى الحائط عاليا، وحدّقت في الصورة المعلقة، صورة ريم بفستانها الأبيض وحذائها الوردي ليلة حفلة عيد ميلادها والأقارب والجيران حولها، وحمزة بجوارها ينظر إليها، وقالب الكيك أمامهم… صورة من الماضي حافلة بالبهجة والسعادة التي لم تدُمْ سوى عدة سويعات.
تنهدت ريم في بكاء مرير وهي تشير نحو الصورة وتقول: في هذا اليوم احتفلنا بتفوق غزة في المرحلة الابتدائية، وأيضاً بعيد ميلادها.. وقتَها رغبت في الخروج إلى البقالة المجاورة لشارعنا، ذهبت ابنتي ولم تعد، لم أتخيّل قط أن ذكرى ميلادها ستصبح هي نفسها ذكرى وفاتها.
المذيعة: وكيف ذلك وهي طفلة صغيرة.. مجرد طفلة.
ريم: المحتل الصهيوني لا يميز بين صغير وكبير.. كانت ابنتي حينها تمشي بجوار سيارة وألقى العدو قنبلةً مدويةً على السيارة.
المذيعة ببكاء: وما تبرير ذلك؟!
ريم وهي تبتسم ساخرة: هم ليسوا بحاجة إلى تقديم تبرير.
سرحت ريم قليلاً ثمّ أكملت: لكنّهم حينها قالوا إنَّ خطأً ما حدث.. لقد ظنوا أن داخل السيارة عناصر من المقاومة.
المذيعة: وماذا حدث بعد ذلك؟!
ريم وهي تضحك: كانت السيارة فارغة.
انهارت ريم في البكاء: تحولت ابنتي إلى أشلاء من أجل سيارة فارغة..
حملتْ حذاءَ ابنتِها الورديّ الملطخ بالدماء وهي تبكي : هذا ما تبقى من ابنتي… حذاؤُها.. مع بعض الأشلاء.
المذيعة: يمكنك أن ترتاحي قليلاً حتى أجري حواراً مع والدها.
مسحت ريم دمعَ عينيها: هذا مُحال.
المذيعة: ولمَ لا؟
ريم: بعد مقتل ابنتي الوحيدة، قرر زوجي الانضمام إلى المقاومة… قال لم يعد لحياتي هدف فلأجعل عالأقل نهايتي مفيدة.
المذيعة: هل انضم إليهم للانتقام.
ريم بغضب: بل قرر أن يكون فدائيّاً للوطن من أجل أن لا ييتم أطفالنا، ولا تحرم أمهات من أطفالهنّ الصغار، من أجل أن تحرر أرضنا… إنه يقاوم من أجل العيش بكرامة، يقاوم من أجل الحرية والسلام..
الحرية أولاً ثمَّ السلام….
https://palfcul.org/?p=14541:رابط مختصر