13 February, 2025

“شاركت في القضية بقلمي. فهل تملك شيئا تشارك به؟” – بقلم صباح تيطراوي

كانت امرأةً في العشرين.. في الأربعين.. في الخمسين.. لا أدري!!

  كل ما أعرفه أنها كانت امرأةً حزينة، يتيمة من كل شيء إلا من حب الوطن..

  تحمل كتاباً بين يديها المغلَفتين بقفازات سودٍ، تتمتم بشفتيها الغليظتين باهتمام بالغ كأنه الكتاب المقدس.. وراء تلك النظارات البشعة كانت تخفي عينين جميلتين بلون العسل.. كانت الآنسة أو السيدة أو الأرملة أو ربما الثكلى تقرأ حيناً وتشرد أحياناً.. من الصعب القراءة تحت القصف.

  جلستُ بجانبها على ذلك الكرسي الطويل ورحتُ أتأملها كأني لأول مرة أرى امرأةً تقرأ.. ما شدَني إليها كان قوياً وثقيلاً ولا أجد له تفسيراً.

  فجأة ترمقني وهي تزيح النظارات عن عينيها.. كل ما أحسسته لحظتها أنها نظرة جمّدت جسدي، فلم أقوَ على إزاحة عينيَّ عنها.. كان الموقف محرجاً بالفعل.. ليس من السهل تبرير موقفك تحت القصف.

  كان صوتها قوياً.. حربياً.. ناريا، لا بل كان ملائكيا حين سألتْني:

  -أين هم؟

  لم أجب، ومؤكدٌ لم أكن لأجيب.. لا أعلم حتى عمن تسألني.. طأطأتْ رأسَها واسترسلت:

  -لقد ماتوا.. ماتوا جميعاً.

  أحسستُني أرتجف داخلَ ثيابي ونبَضاتُ قلبي تتسارع، وبدأ العرق ينساب ليغازل شامات جسدي، وفي خضمِّ معركتي الداخلية هذه رفعتْ رأسَها من جديد محدِّقةً في عينيَّ مباشرة.. ولأنها قرأت التوتر فيهما فقد واجهتني بناظريها إلى الغروب، كم هو جميل هذا المنظر!! لا أقصد غروب الشمس، فهذه المناظر لم تعد تأسِرُنا.. من الصعب الاستمتاع بالمناظر الطبيعية تحت القصف.. كانت تلك الابتسامة المرسومة على ثغرها.. قالت السيدة:

  -“بل أحياء عند ربهم يرزقون”.

  أعادت كتابها إلى حقيبة يدها السوداء، ورحلت حيث لا أدري، كان ذلك آخر ما سمعتُ منها، لكن لم يكن آخرَ لقاء لي بها.. هدَّ البحث كياني، ليس من السهل أن تجد شخصا لا اسم ولا عنوان له في أرضٍ كلُّ ما فيها أنصاف أشياء.. أنصاف بيوت وأنصاف مدن وأنصاف أجساد.. ليس من السهل العثور على نصف جسد تحت القصف.

  كانت سيدة، أرملة وثكلى في الأربعين، استغرقت اثني عشرَ عاما لتنجبَ خمسةَ أبناء مع رجل وهب نفسه للوطن ولم يكن يعلم أنه بهذا لا يهب نفسَه وحدَه بل أبناءَه وزوجته أيضا.

  حين نزل الصاروخ على الحي العتيق وهدم البيوت كانت هي في سوق المدينة.. لو علمتْ مسبقاً بأن صاروخاً سيحل ضيفا ثقيلاً عليهم لربما بقيت في المنزل لتستقبله رُفقةَ زوجِها وأطفالِها، بدل أن تكونَ هي من يبحث عن أشلائهم عرس الشهادة.. ليس سهلا أن تكون أبا أو أما تحت القصف.

  أذهب لنفس المكانِ كلَّ يوم، أجلس على نفس الكرسي وأنتظر الغروب ثم أعود لغرفتي في ذلك النزل الصغير المخصص للصَحفيين حيث نحضّر وجَباتِنا وقهوتَنا ونترقب قصفاً جديداً كل لحظة، لا نعلم هل نعيش بعده لننقلَ ما يخلفه من أنصاف أشياء أم نكون نحن أنصاف الأشياء.    اتصلت أمي ذات يوم قائلة:

  ألم يحنِ الوقتُ لتعودي إلى البيت؟

  جمعتُ أغراضي بتثاقلٍ داخل حقيبتي، آلة التصوير والتقويم.. وقلم أزرق وعلكة منسية، بعض الثياب ووشاح.. مشيت وسط الطريق وعلى الرصيف، داخل برك المياه، وفوق قذارة البشر، فلقيني حطام وحشرات وناس متحسرون وجثة لامرأة في الأربعين.

  لم أبك.. لم أصرخ.. لم أشفق حتى.. بل واصلت طريقي، غادرت المكان لكني بالطبع لم أغادر الوطن ولم أعد لحضن أمي لأني تعطشت للمشاركة في القضية.. ولأني تعرفت على امرأة صاحبة قضية، كانت امرأة يعرفها الجميع دون أن يعرفَها أحد.

      ليس من الصائب أن تبكيَ الشهداء تحت القصف…

Font Resize