من أحداث مجزرة الفجر في مصلى مدرسة التابعين”
تجّمعنا مئاتٍ في “مدرسة التابعين” بحي الدرج في غزة، هرباً من الغارات الإسرائيلية المتكررة التي كانت تستهدف منازلنا في الحي، وهو حلمٌ بعيد المنال.. كنا نأمُل أن تكون المدرسة من الأماكن التي لا يقصفها الاحتلال الغاشم، وَفقًا للقانون الإنساني الدولي واتفاقيات جنيف.. لكن هيهات هيهات.. لم نكن نأمن أن يُستهدف المكان في أي لحظة، ذلك أن الاحتلال الإسرائيلي يتجاهل القوانين الدولية منذ احتلاله لأرضنا، وارتكابه أبشع جرائم الحرب ضد حقوقنا. فقد قصفوا العديد من المستشفيات والمدارس، حتى بعد اعتماد اتفاقيات جنيف الأربع عام 1949م، التي تحظر قصف المدارس والمستشفيات، وتَعْتبِرُ ذلك جريمة حرب.
السبت فجراً – 10 أغسطس 2024 م..
كنتُ أغفو في الزاوية البعيدة من غرفة المدرسة، حيث اجتمعتْ عائلتي كلها؛ كدثارٍ وقائي من قصف الاحتلال، كان النوم مضطربًا، وتلك عادة نومنا.. لا يكاد يهدأ ليتجدد بين الحين والآخر بفعل الأصوات الرعدية المدوية التي تنبعث من أماكن مجاورة في الحي.. كل انفجار كان يعيدني إلى يقظة مُفزعة.. نعم مُفزعة، وأجد نفسي أبحث عن قطعة أمان في سكون الليل العميق.
لم يكن لي خيار سوى التمسك بأهداب النوم، رغم أن الأوقات المظلمة لم تكن سوى انقطاع مؤقت من القلق.. فجأةً وفي لحظة تسبق صلاة الفجر بنصف ساعة، شعرت بيدٍ رقيقة تلامسني برفق.. كان والدي يقظًا، وقد جاء ليوقظنا، وكأنْ لم يكن شيء من الفزع الذي يعم المكان.. بصوت هادئ، طلب منا أن نستعد للصلاة، وبهذا التذكير البسيط، تراجعتْ مخاوفي لحظةً، وشعرتُ بأن هناك نوراً يتسلل إلى الظلام، مهما كانت الظروف صعبة.
بعد أن سمعنا أذان صلاة الفجر، كان أبي قد استعد للتحرك.. أخذ أخي الصغير “عليّاً” الذي لم يتجاوز الخمس سنوات، بيده برفق، ونزلا إلى الطابق الأرضي؛ حيث يقع مصلى المدرسة، بينما انتظرتُ والدتي لننزل معاً..
وقفتُ في ممر المدرسة المظلم، منتظرةً أمي لنلحق بأبي وأخي.. رفعتُ رأسي إلى السماء التي بدأت تتلون بأول خيوط الفجر، والنجوم ما زالتْ تتناثر كحبات لؤلؤ، والقمر يضيء بنوره الهادئ.. شعرت بشيء من السكينة يتسلل إلى نفسي؛ رغم كل شيء.
كان ضوء القمر، في تلك اللحظة، يبدو لي كأنه وعدٌ بنهاية الظلم، كأنه يقول لي: “كل ليل مهما طال، فلا بدَّ أن ينجلي، وإن هذا الظلم، مهما اشتد، فلا بدَّ أن يزول.”
بينما كنت أتأمل ذلك النور الفضي، شعرتُ بأن هذا الضوء الهادئ يحمل في طياته أملًا جديداً، أملًا بأن تحريرنا قادم لا محالة، وأن هذا الليل الطويل سيتبعه فجرٌ مشرق. رغم صوت القصف الذي لا يزال يُصِمُّ الآذان من حولي، كان ذلك القمر الصامت يقول لي شيئاً مختلفاً: “ابقَيْ قويةً، الليل لا يدوم، وكل قسوة تنجلي في النهاية.”
كان ضوء القمر يملؤني بإحساس عميق بالسلام، كأنه يربط بين السماء والأرض، ويذكرني بأن ما نعيشه الآن ليس سوى فصلٍ مؤقت في قصةٍ أطول، قصة نصر لا بد أن يأتي..
أيقظتني من شرودي تلك الرائحة الخانقة للبارود التي تسللتْ إلى كل زاوية من زوايا غزة، محملة برذاذ سام يفتك بنا تدريجياً، ويقضي على جهازنا التنفسي.. ورغم كل ذلك، نحمد الله على أننا ما زلنا نحظى بنعمة الهواء، التي لم يستطع الاحتلال الإسرائيلي الغاشم أن ينتزعها منا كما فعل بالطعام والشراب.. مثل عقيدتنا وهويتنا، التي مهما بلغتْ قوتُه، فلن يستطيع أن يغيرها أو يطمسها.
وعندما بدأتْ أمي تقترب، شعرتُ أنني لستُ وحدي في هذا الظلام، وأن هناك نوراً ينتظرنا جميعاً عند نهاية هذا الطريق..
عندما دخلنا مصلى المدرسة، رأيت صفوف الرجال والنساء قد انتظمت، تتخللها أجواء من الخشوع والسكينة.. كان الرجال في الصفوف الأمامية، بينما الصفوف الخاصة بالنساء تمتد خلفهم، كما هي الحال دائماً.. لمحتُ في صفوف الرجال أخي “عليّاً” حيث كان يجلس بجانب والدنا، الذي ظل يترقب وصولنا؛ فأشار لنا بابتسامة عريضة، وكأنه يريد أن يطمئننا أنه بخير، ثم عاد بهدوء إلى جلسته.
تخيّل يا عزيزي أن تكون في مكان يحيطك فيه الموت من كل جانب، حيث تملأ أصوات الانفجارات وسقوط القذائف الأفق، وأنتَ لا تدري متى وأين ستسقط قذيفة الموت القادمة!!!.. لكن هل يخشى الإنسان شيئاً وهو بين يدي الله عز وجل؟! وأي لقاء أفضل من لقاء الله؟! وأي موتة يمكن أن تكون أسمى من الموت بين يدي الرحمن جل وعلا؟!
بضع دقائق وأُقيمتْ الصلاة، ثم تقدم الإمام.. انتظر قليلًا ثم نطق بتكبيرة الإحرام.. كان الجميع في حالة من الخشوع والسكينة، لم نكن نعلم أن هذه اللحظات ستكون آخر لحظات الهدوء.. قبل أن تنتهي ألسنتنا من النطق بالتكبير، فجأةً.. قطع الصمتَ صوتٌ مرعب، وكأنّ السماء انشقت.. ثلاث قذائف، ثلاث طلقات من الجحيم، انقضَّتْ علينا كوحوش جائعة.. في لحظة، انقلبتْ الحياة إلى فوضى، انفجرتِ القذائف بقوة هائلة، محدثة موجة مدوية من النيران دخلتْ لتلتهمنا بلا رحمة، وحملتنا قوة الانفجار بشكل عشوائي.. تطايرتْ أطرافي العلوية والسفلية بعيدًا في الهواء، وأُصيب رأسي بشَّجَّةٍ عميقة في جبيني.. تحولتْ أجساد آخرين إلى قطع متناثرة في أماكن متفرقة.. آخرون نَشِبتْ في أجسادهم النيران.. تخللتِ المكان صرخات مدوية وآهات حزينة.. ونوافير الدماء انفجرت في كل مكان..
فجأةً، وسط الدخان والنار، قبل أن تتلاشى موجة الانفجار، وقبل أن ألفظ أنفاسي الأخيرة وتتقطع أجساد البعض تماماً.. توقفتِ اللحظات عندما ظهرتْ في الأفق أجساد نورانية عملاقة ناصعة البياض، اخترق نورها سحب الدخان والنار، وبسرعة تفوق سرعة الضوء، هبطتْ إلينا، وتوزعتْ بين الأنفس التي شملتها موجة الانفجار، وكلما اقترب أحدهم من نفس؛ كان يسحبُني كقطرةٍ تسيلُ من فم السِّقَاءِ ..
رُفِعنا جميعًا إلى السماء.. أبي وأمي وأنا وأخي.. عشرات الأطفال بأهاليهم.. رجالٌ ونساء.. شيوخٌ وشباب.. ارتقينا جميعاً إلى السماء، وخلّفنا وراءنا أجساداً مفحمةً وأجساماً مقطعة..
مَنْ أنا؟!! أنا روح.. روح كل طفلٍ وكل نفسٍ أُزهقتْ في مجزرة الفجر في “مصلى مدرسة التابعين”.
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [سورة الفجر]