24 March, 2025

دُوّامة – بقلم إبراهيم حافظ غريب

(1)

جاؤوا بنا على عجل من مصنع الكرتون، لماذا العجلة؟ أخذونا أكواماً إلى مخزن التموين، ملؤونا بأصناف مختلفة ورخيصة، حشروها إلى داخلنا كيفما اتفق، أحكموا إغلاقنا، ركَّبوا من فوقنا طائرات شراعية، أهملوا تركيبها لبعضنا؛ ما الذي ينوون أن يفعلوه بنا؟

أعادونا مجددا إلى شاحنات كبيرة سارت بنا إلى المطار، وهناك نقلونا من بطن الشاحنات إلى جوف الطائرات، تحمس من بجانبي وهتف:

–  واو! هل سنجرب شعور الطيران لأول مرة؟ هل ركَّبوا لنا هذه الأشرعة لأنهم سيقذفون بنا من علو؟

–  ولكن كيف سيهبط بأمان من لم يحظ منا بشراع؟

كنتُ أحدَهم، وتوجّست في نفسي خيفة.. المهم الآن متى سنطير؟ إلامَ ننتظر إقلاع الطائرات بنا؟ ماذا؟ كأنها تحركت للتو، إنها تسير فعلا، تزداد سرعتها بوتيرة عالية، أحس أنها ترتفع، أشعر بإثارة وخوف، أظنها تقلع الآن، إلى أين تكون وجهتنا؟

(2)

ما عدتُ أقوى على الجلوس فضلا عن الوقوف، أسندني من فضلك، لا أظنني أستطيع الصمود أكثر، بطني يؤلمني، يحرقني حرقاً، كيف أطفئ هذا اللهيب المشتعل بداخلي؟ ما الذي حدث للإنسان؟ كيف اعتراه هذا التغير فجأة؟ هل تحول عن إنسانيته وصار مثلنا؟ لماذا يتهافت على قوتنا؟ بسبب مزاحمته ما عدنا نجد ما نقتات عليه. إلامَ نعاني هذا الجوع؟ هل تطول محنتنا؟

أمّا مالكُنا؛ فإني أراه منذ أسبوعين يأتي بكيس صغير من العلف كل يوم، يتجاوزني ويدخل به على أهل بيته، أتسألني:

–  ماذا يفعلون به؟

–  ألا تعلم؟ إنهم يأكلونه مثلنا تماما.

–  كيف يستسيغونه؟

–  لا أعلم.

–  إذا أكل الإنسان طعامنا؛ فما الذي يبقى لنا؟

دعك من هذا الآن، لا أرى مالكي منذ يومين، وبدأت أقلق عليه، غاب عن البيت ولم يعد… أطفالُه يتضوّرون جوعاً أمامي، إلى أين يكون ذهب؟

(3)

لا ينبغي لي أن أيأس، لا بد من حل يكمن لي في أي زاوية، قد يظهر أمامي في أي لحظة. كيف أعود إلى البيت خالي اليدين؟ كيف أواجه يعينيّ عيونهم البريئة المتسائلة:

–  هل معك شيء نأكله يا أبي؟

–  ليس بعد؛ ولكني سأجد قريبا، اصبروا أكثر قليلا.

وأخرج مجددا لأبحث، كم مرة خرجت بأمل؟ كم مرة عدتُ بيأس؟ كم مرة لم أخرج؟ كم مرة لم أعد؟ ما عادت تعنيني المرات، المهم إن عدت هذه المرة أن أعود بشيء معي يأكلونه، أي شيء يؤكل مهما كان الثمن؛ حتى لو كان حياتي نفسَها. سأظل جاثما هنا ولن أتحرك إلا بحصتي المشروعة من المعونة، مضت عشر ساعات وما زلنا ننتظر، قالوا: إنهم سيطرحونها علينا كأمس من داخل الطائرات.

ها هي ذي، كأنها مقبلة تجاهنا، تريد أن تقيء ما في جوفها علينا، إنهم بدأوا يقذفونها الآن، يجب أن أقترب أكثر لأنال حصتي قبل الآخرين، فلأكنْ تحت الطائرة مباشرة؛ لأستقبل المطروح بيديّ؛ ولكن ماذا يحدث؟! بعض الكراتين لا شراع لها، تهوي على الأرض بقوة. هل أبتعد أو أقتحم؟ إن ابتعدت عدت خالي اليدين، وإن اقتحمت فلعلي أنجو..

(1)

غزة وجهتنا إذاً. ما هذه المدينة الملأى بالأنقاض؟ هل طرحوني على الرجل عمداً؟ لماذا اندفع لالتقاطي هكذا؟ هل كان يائساً إلى هذا الحد؟ في الوقت الذي كان يفترض بي أن أنقذه قتلته. أين أجد أهله لأعزيهم؟

(2)

Font Resize