24 March, 2025

دموع دفينة – بقلم عزة مصطفى عبد العال

تجلسُ على الكرسي الخشبي الهزاز.. تحدّقُ في الشاشة باهتمام بالغ.. تتابع  أحداث الحرب في غزة.. تنحدر قطرات اللؤلؤ على وجنتيها.. تتفرق في الأخاديد المتشعبة بين تجاعيد الزمن.. تطلق زفرات عميقة.

      تنهض.. تسير ببطء متكئة على عجازها.. تفتح خزانة ملابسها.. تُخرج الصندوق الفضيَّ القديم.. تعودُ إلى جلستها على الكرسي.. تحتضنُ الصندوق كطفل طال الشوق إليه.. تهمس له ببعض الكلمات تهدهد بها جراحها.. تفتحه بحذر شديد تمسك بعدة مفاتيح صدئة قديمة، هي مفاتيح حجرتها وباب البيت وآخر ما تبقى لها من الوطن.. هناك حيث تركت لعبتها المفضلة وفساتين طفولتها..  هناك حيث هجرت المدرسة وفراشها الدافئ وتلك الجدران التي تمتلئ برسومات الطفولة.

      كانت ترسم شجرة زيتون حين أخذوها وخرجوا مسرعين وعندما سألت:

      إلى أين سنذهب يا أبي؟

  – إلى حيث يشاء الله.

      استسلمت ليده.. تركت نفسَها وسط المندفعين المهاجرين إلى حيث لا يعلمون، وفي الباخرة أغمضت عينيها ونامت على صدر أبيها، وحين استيقظت وجدت نفسها في دار غير تلك الديار التي تعرفها، سألته ببراءة الدهشة:

               أين نحن؟!

  -وصلنا إلى أرض الغربة سنبقى هنا حتى نعود.

      لم يكن يعلم أنه لن يستطيع العودة، ولا يملك ذلك القرار.. حين تهاجر الطيور تعلم أنها ستعود يوماً، والمسافرون أيضاً يعودون مهما طال الغياب، حتى دوابُّ الأرض تحنُّ إلى أوطانها، لكنها ستظل تحن إلى القدس ولا تعود..

      مات أبوها في الغربة ولم يشاهد الديار لمرة أخيرة.. ترك لها مفاتيح البيت وأوصاها:

      لا تفرطي فيها.. يوماً ما ستُفتح أبواب الوطن، وستُرد إلينا أملاكنا.. احتفظي بالمفاتيح لحين العودة.

      السنواتُ تمضي وراء السنوات، والعمرُ ينفرط من خيط الانتظار.. وكلما راودها شوق الطفولة إلى جدران الدار داعبت تلك المفاتيح محدثة صوت جلجلة يخترق حدود الذاكرة، ثم احتضنتها في راحة كفيها وهي تردد بأمل:

      سأتركها لحفيدي ربما يعود يوماً.. ستكونُ صكَّ مِلكيةِ الوطن.

      تردُّ المفاتيحَ إلى الصندوق.. تتعلقُ عيناها بالشاشة.. تتابعُ أحداثَ الحربِ وهي تجفّفُ دموعاً دفينة.

Font Resize