بصعوبة بالغة استطاعت تلك الصغيرة أن تفتح عينها اليسرى، الرُكام يُحاصِرها من جميع الاتجاهات.. من فوقها وأسفلها.. يسارها ويمينها، أصواتٌ تتعالى من الخارج ممتزجة ببعضها لا تكادُ تميزُ صوتاً محدداً.. فقط صرخات.. ارتطام صخور.. انفجارات… بكاااء … بكاء.. الكثير من البكاء.
على أضواء كشافات الهواتف وسماء ضبابية، أتى صوتٌ مبحوحٌ متقطع الأنفاس يصيح بصعوبة: هناك طفلة على قيد الحياة هنا.
حياة هذا اسمي.. سمّتني والدتي من بين جميعِ أسماء العالم اختارت لي ذلك الاسم، حكت لي جدتي مرارًا وتكرارًا قصة اسمي، بعد أن أجمع الاطباء على عقم والدتي ويأس والدي من إنجاب طفل، دبت الحياة في أحشاء أمي، صرخت فرحةً عند معرفتها بوجودي: هناك حياة بداخلي، وهنا وقع الاختيار على اسمي.
أبلغ من العمر ستةَ أعوام.. ذات شعرٍ بُنيٍّ مائل للاحمرار، وعيناي عسليتان واسعتان، ولدتُ داخل هذه الأرض المقدسة هنا نحفر تاريخها على النعوش قبل رحيلنا وعلى الأبواب وبين ثنايا جلودنا! هذا ما تعلمته من والديّ.
لكن أين هما؟! أنا لا أرى شيئًا.. فقط يمتزج في أنفي رائحة الدماء والكتير من الغبار.
……………….
كانت رحلتي شاقة للغاية أمضيت أكثر من أسبوعين في انتظار السماح للشاحنة التي أركب بها وعبوري من المعبر، أوقفني جنود يصوبون نحوي البنادق.. شعرت أنني ذات أهمية وأمثِّل خطورةً ما أجهلُ طبيعتها!! لكنني في كل الأحوال مهم للغاية وخطر في آن واحد.
دخل أحد الجنود في توتر وعصبية وفتشني بحذر ودقة مبالغ فيها، وعلى مضض أشاح بإصبعه في إشارة لمرور الشاحنة.
كنت أهتز بشدة بسبب منعرجات الطريق، وأميل يمينا ويسارا بعنف، وبعد مروري بنصف ساعة توقفت الشاحنة وسمعت ضجةً في الخارج، مساعدات.. مساعدات.. مساعداااات.
ومرةً أخرى حفرت خيبة أمل على وجوه من يفتش عني.. هنا أحسست أن قيمتي تضاءلت أمام ما يرتسم على وجوه هؤلاء ( دماء، إرهاق، حناجر متحجرة، عيون محملقة في الفراغ منتظرة شيئاً طال انتظاره)
امتلأتُ بهذا الفراغ.. أود أن أصرخ.. أخرجوني من صندوق الموتى هذا، شرد بعضي مني، بدأتُ في التلاشي.. أشعر باللاشيء ولكنني مجبر على إكمال السير، وسرتُ…
وصلتُ إلى وجهتي أخيراً، وبعد أن فحصني رجل أربعينيٌّ أشيبُ كثيفٌ ذقنُه، أشاح بيده ومعه مِقص وتمتم.. كانَ صوْتُهُ مُتَهَدِّجاً مُتَكَسِّراً: يكفي لطفلين وامرأة ..
هنا شعرت بأنني اتمزق ولا أملك سوى الصمت.
……………
ذات صباح ممطر في خيمة لم تمنع شيئا من المياة سوى جزء ضئيل، جلست جدتي جلسة القرفساء وشرعت في الحكى وهي تحيك سترتي الصوفية على ضوء شمعة تلفظ انفاسها الاخيرة.
كانت هناك ” نملة” سكنت منزل جارتها، اطعمتها يوما بعد يوم إلي أن شعرت النملة بحقها المكتسب في وضع الطعام باستمرارية دون انقطاع!
ولم تكتفي بذلك تلك النملة -الملعونة- جمعت عشيرتها من كل صوب وحدب في منزل الجارة ؛ إلي أن اشتكت لهم الجارة وارادت منهم الخروج ولكن النملة صاحت هذا منزلي ومعي جميع البراهين والإثباتات ! !!
توجهت تلك الجارة المسكينة إلى جيرانها -عسى أن تجد المساعدة- من طرفهم، ولكن تفاجئت فجيرانها وضعوا الحق عليها وظلت العبارة تلاحقها: الحق عليكِ اكرمتي من لا يستحق!
اراحت الفكرة نفوس جيرانها في احقية عدم الدفاع عنها ولم يعرفوا ان النمل الاحمق لم يتوقف إلى أن يستولى على منازلهم أيضًا مهما طال الزمن وكلفهم الأمر.
……….
عروستي جميلة اختارتها من بين العديد والعديد من الالعاب المعلقة؛ عند رؤيتها للوهلة الاولى تعلق قلبي بها- ملابس انيقه اعين واسعة ابتسامة ساحرة شعر مموج – ضغطت بخفة على يد والدى واشرت باليد الاخرى هذه يا ابي اريدها .. تمتت أبي وارتبك بعد أن استفسر على ثمنها وقال في خجل: عيوني يابابا لكن ليس اليوم.
ها هو والدي ممسك بتلك العروسة الساحرة محكم قبضته عليها وكأنه يخشى عليها من الهرب، العروسة مبتسمة ابتسامتها الساحرة لكن والدي كأنه كبر على غفلة أشعر أنه أصبح كهل تجاعيد وجه وشعره الابيض وعيناه الممتلئة بالدموع والجمود.
اردت ان احتضن أبي ولكنه وضع العروسة بجانبي وقال لي: اليوم اجاه يابابا …. ورحل في صمت مهيب.
والنملة استولت بعد تأيد بقية الحشرات بالطبع لها على بيوت الجيران .
وقماشي الأبيض اتسع لجثمان حياة التي كانت هنا وصاحبة العروسة قبل أن يتيح الوقت لها ملامسة اناملها لشعر عروستها المموج والجارة المسكينة…
صاح المراسل على التلفاز بعد أن خلع سترته هنا كلنا موتى مع فارق التوقيت، بكى من بكى ويبقى الوضع كما هو عليه …..
يُتبع ………….