لم يستطع الخروج من غرفته… أربعون يوماً كاملة يقضيها أمام البث المباشر يتابع الأحداث ليحصيَ أعداد القتلى والجرحى من معارفه.
اضطُرَّ إلى ترك عائلته في غزة والسفر إلى لبنان لتلقي العلاج بعدما انتشر المرضُ الخبيث في دمه.. يعرف أنها محض محاولة يائسة وأن العافية التي ذهبت لن تعود، وأن السرطان بدأ هجمته ولن يترك من جسده خلية سليمة، كما حدث في بلاده منذ غادرها اشتعلت الحرب ولم تترك بيتاً من بيوتها دون دمار.
حين وصل إلى مسامعه أسماءُ الأصدقاء والأقارب الذين استشهدوا توقف عن العلاج وعاد إلى غرفته في الفندق، لا يشغله شاغل طَوال اليوم سوى الاتصال بكل من يعرف ليطمئنّ على بقائهم على قيد الحياة.. صحيحٌ أن بناته كبِرن ويستطِعْن تدبر أمورهن لكن الصهاينة لا تأخذهم شفقة بصغير أو كبير، فكلَّ يوم يتصل ويوصيهن على أنفسهن.
أكثرُ ما يؤلمه مشاهد جثث الأطفال الممزقة وأمارات الرعب التي تبدو على وجوه الأطفال المصابين.. ولم يبك في حياته كما بكى على الأمهات التي تودع جثمان أبنائها..
حمِدَ الله أنه وحدَه ولم يشاهد دموعَه أحد، فأهلُ غزة يتظاهرون أمام العالم بالقوة والبأس والشدة لكنَّ قلوبَهم أرق من قلوب العصافير.
الليلُ في الغربة جحيم أسود حيث يشعر بأصوات القنابل تتشظى في أذنه، ويسمع صرخات الأرواح التي تغادر الحياة رغماً عنها، ويرى الدماء تتدفق حوله، فيهرب النوم من عينه، لكن الليلة الماضية ظلت الكوابيس تطارده ما بين النوم واليقظة، وظل شيطان عقله يوسوس له بأنّ المرض يفتك بجسده وأنه لن يرى عائلته مرة أخرى.
تعلّم منذ الصغر أن يطردَ الشيطان بالوضوء وتلاوة آيات من القرآن الكريم.. توكأ على عصاه.. توضأ وصلى وجلس يقرأ في المصحف ولم يشعر بأشعة الشمس التي ملأت الغرفة.. شكر الله أنه منحه الحياة ليومٍ آخر.. فتح التلفاز ليتابع نشرة الأخبار وبوجه كله أسى ظهر المذيع وهو يقول:
“جاءنا البيان التالي:
امتد القصفُ لجميع أحياء غزة… استشهد العشرات بل المئات بل الآلاف… العدد أكبر بكثير من أن يُعد أو يُحصى، سجلت كاميراتنا طفلة ناجية تحمل أخاها الصغير وهي ترفع وجهها للسماء وتصرخ”
لم يتمالك نفسه من البكاء، في تلك اللحظة شعر أن المرض تمكن من قلبه وأتلف صدره، ولم تعد لديه القدرة على التقاط أنفاسه فتركها تغادر خلف أحبابه.