11 February, 2025

تغريبة فتيّة – بقلم حميد لغويطر

أمام ناظري صفُّوا الجميع ثم أطلقوا الرصاصَ على كل الأجساد،   فتشوا ملياً بين الرؤوس.. لم يجدوا أي فكرة قتيلة أو حتى جريحة.. وكنت أراها تحضن الجميع.

   -نجوتِ الحمد لله.

   انهالت عليّ المواساة، لكني كنت هناك أتأمل وجه أبي، بعض التجاعيد الصغيرة حول عينيه، شعرات بِيضٌ تزحف قرب أذنيه وعلى ذقنه، شفتان مطبقتان، خيال بسمة يغشاهما.

   أغرقتني دموعي، قبّلت رأسه قلت له في هدوء: سلّم على أمي.

   في نفسي تصارعت كلُّ الأفكار، تزينت كلُّ الأماني، ماذا لو سكتنا وكتمنا جوعنا؟! ماذا لو لم يقل له رائد: جعتُ يا أبي؟! أجل كان سيبقى ذاك الصباح، سيبقى شجرة تظللنا.. ليته بقي.

   خرجتَ تبحث عن لقمة وخرجتُ أبحث عنك، من بعيد، لمحتك بقميصك الأزرق وطولك الفارع، أولئك الغاصبون بدَوا حشرات زاحفة أو طفيليات مقيتة، سدّدوا حقدهم نحوك، لجمت صرخاتي لتطلقها عيناي.

   جذبتْني من قاع ذاكرتي همسات صغيرة:

   -أين أبي؟

   -أين سنذهب؟

   يا للأسئلة البسيطة الصغيرة كيف غدت مسائل عويصة بل شائكة؟

   كان عليّ أن أستجمع ما تناثر مني وأجيب:

   – كلُّ هذه الأرض منزلنا، امش يا رائد.. هيا يا لبنى.

   -وأبي؟

   -سـ… سبقنا إلى الجنة.

   جوابي ضمدت به جراحي، انسكب بلسماً على صدري قبل كل الصدور.

   -ومتى نلحق به؟

   … راح سؤال رائد يطوف في الأذهان.

   -لن تلحق به حتى تصبح أطول منه.

   أمسكت بقوة على يده، ورحتُ أخطو وسط ذلك الحشد الذي يصارع الحياة والموت معا.

   هل أنا تلك الفتاة النحيلة، المتحمسة دائماً، غير الصبورة غالباً، المشاكسة لإخوتها بلا هوادة؟

   -مشكلاتها أكبر منها، متى ترشد؟

   هكذا كانت أمي تعلّق، ليردّ أبي بثقة.

   -كلُّ شيء في وقته جميل، أكيد سيأتي يوم تكون فيه أعقل.

أبي هل جاء ذلك اليوم؟

جسدي النحيل يتقدم بطيئاً، تأكلني الأشياء التي في قلبي، أحاربها فتكف، أهملُها فتدِبُّ ضباعاً شرسة تنهش روحي، أتنفس عميقا، أشد يد أخويّ، أعانق أمي.. أقبّل يد أبي فتتلاشى تلك المفترسة، أتمتم: الحمد لله.

   اختلط صوت الزّنّانة بأصوات العابرين، العجوز الذي يتكئ على ولده.. المرأة التي تجر عربة أولادها.. الجريح الذي يلفُّ ذراعَه بخرق مهترئة.. الفتى الذي يحمل فُرُشَه على عاتقه… هي هي تغريبتنا؟! لا شيء تغير غير طائرة تراقب.

   بين الأماكن التي لا تشبه الأماكن وعلى الطريق الذي يمتد بلا نهاية تتأرجح أيامنا لترمينا تحت ظل قماش تهزه الريح بلا هوادة.. هناك يضمنا الصقيع، ويغرقنا المطر ومازلت أحتضن أخويَّ، رحنا نطول ونطول حتى لامست رؤوسنا النجوم… ومازال رأسُ أبي بعيداً جداً.

Font Resize