مساء بطعم الوطن… ولأننا نسكن التراب والدمع أغادر في لحظة حزن وأتدثَّر بالذكريات علّني أشفى من هذا الوجع…
أيا وطني.. أيا وجعاً يمتدُّ في جغرافيا الانتماء
كل ما يبدو صغيراً فيك، كبير ويعنيني… نسمات الصباح وابتسامات وأصوات البقاء، وخطى نحو المساء، ما تقولون عنه فائق التفاهة هو روح جديدة أحلِّق بها لأتساقط بعيداً عن الوطن.
فإلى متى ونحن نتجاوز أحزاننا.. نمتلىء بالكلام دون القدرة على البوح… الألم لا يسمعه إلا الغائرون في الجرح… القلب يبقينا في انكسارات لا تنجبر، لايسمع صوت أنينه وحدَه.. النبض يبقينا نتذكر من غادرونا… ونعيش ظلمة الفِقدان… ويا ليتني أتبخر بالنسيان.
بل نبقى قيد الألم فالوطن تراب ونصف حلم…
كان صوت أنينه يعبر كلَّ الغرف… الرّجال لا يبكون.. يتوقف عندها كي لا يكسر ما تربى عليه.. الدموع تعني العار، هنا يولد الصغار رجالاً لا تقبل أن تذرف شموخها.
لهذا ظل صامتاً طوال الليل وهو يحدق في جثث أولاده وزوجته.. لم يجد غيرهم بعد أن اختفى البيت والتهم والديه وابنتَه لقاء. الموت ورائحة الخوف المنبعثة من الأحياء وكل هذا الخراب… هو بفضل أولئك القادمين من هناك أين حفلة الرقص التي تسحب جثثنا إلى الاستمتاع بالموسيقى؟! الرجال لا يبكون… تبقى شهقاته ترتطم بجدار قلبه وتنتفض جوارحه لشدتها لا يملك إلا أن يتصلب مكانه.. ويرحل في هذا الصمت.
تذكَّر في يقظته من ظن أنهم سيعيشون معه كانوا هنا منذ قليل ولم ينتظروه.. لم يَدَعوا له حتى وقتاً ليضمَّ وجعَه ويجد مكاناً لآمانيّه المؤجلة تطايرت مع أول قنبلة وآخر نفس.
كم كان يشبه أبطال الحكايات.. يسكن الحجر.. ينقش تفاصيل بيد من حديد.. يجعل جسده درعاً لما كان وما سيكون.. يشبه ثوار التحرير وعيونهم الشاخصة وهم ثابتون بين يد من موت ونار.
.. في زمن الموت.. لا نفتقد من غادرونا بل نُشفق على الأحياء..
الرجال لا يبكون لأنهم يرضعون في صغرهم دماً ممزوجاً بالفقدان.. هم لا يرون أمهاتهم.. هم يولدون من الصخر الذي يلتقفهم من رحم الأرض.
نحن ندمن حب الوطن.. فهو ينفض غبار اليوم على القلوب الباكية.. يضخ دماً جديداً بدل الذي نزف ونزف.. لن يكون سهلاً أن ننسى أو أن نبتلع دموعنا.. أن نجتث الحزن وأن نبقى هنا وفقط
.. انتظر أن يستفيق أحدهم ويخبره أنه يجب أن يصرخ.. أن يدفن الأمل.. بأن يعود يوماً.. أن يعرف أن الموت هو ما يجيده صناع العالم الأفضل…
لن يحدث شيء أسوأ.. كل ما ينبض هنا توقف، باسم قانون الارض.. لا السماء..
ولأن الوطن يحتاج إلى أكثر من جسد.. هو يريدنا أبطالاً من حديد لا تكسر..
كان يجب أن يتعلم أن من نحبهم لا يبقون.. سيغادرون.. المهم أن يبقى الوطن.
استفاقت لقاء بكثير من الجروح والتراب.. تسحبت ببطىء المكان موحش بحثت عن عائلتها بين الركام… لكن امتزاج الدم بالتراب جعلها ترى كل شيء بلا ملامح، أعادت مسح عينيها.. ظنّت أن الدموع الحبيسة فيهما هي السبب.. أغمضتهما بصعوبة، وعاودت فتحهما.. لم يتغير شيء، الغمام كان يغطي المكان، والسواد جعل الخوف يسكنها.. اختبأت.. خافت أن يكونوا هنا، انحشرت في الزاوية، رأت في ظلمتها والدتها وهي تقول لها: ابنتي الغالية نحن الآن نحافظ على الكرامة لا على الحياة، لذا أختبئي أو موتي جوعاً أو اختناقاً.. المهم أن لا يأخذوكِ معهم.
الحرب علمتهم أن يحفظوا الدرس، كان كل يوم هو فرصة الفوز بالموت بشرف؛ لأن أصحاب الأقدام السود لا يرحمون.
اشتقت إلى وطني لا أبحث أنا عن عالمهم.. كانت تحدث أمها دائماً بهذا وتسألها: ماذا فعلنا يا أمي لنستحقَّ كل هذا الخراب، هذه الغصة لم تفارقها.
رغم أننا نرى النهاية جلية.. في زمن حولتنا الحروب إلى أجساد من حزن لا تبتسم إلا للموت صارت الأحلام خرافة، لكنها المكان الوحيد، حيث لا يصل غمام الحرب.. هنا تُنسج حكايات من نور، وتغزل النساء من شعورهنَّ المحترقة تحت سقوف البيوت المهدمة آلاف الأشرطة وتزين بها قبوراً بلا عنوان.. واقع مخيف يدفعنا للهروب إلى قصص من ورق وأبطال لا تحترق، حيث ينتصر الحق دائماً.
سمعتْ لقاء أنيناً يتسرب من الجدار.. اقتربت وأبعدت ما كان أمامها من خراب ودمار.
بخوف نادت: أمي أبي.. كان صوتُها روحاً جديدةً دخلت فيه بعد هذا الصمت المميت.. التفت للصراخ ظن أنها هلوسات الفقد تتبعَ الصوت بجسد مخدر من الألم.
ابنتي.. أنا لقاء.. أبي كان صوتُها طوق نجاة كي لا يغرق في ما بداخله من دموع تنفس بأول ضمة لها وحشر رأسه في حضنها..
ضمت جروحه الغائرة، ومسحت دموع روحه، لا تحبس ما بداخلك من حزن، يا أبي.. البكاء سيريحك.. سيجعلك تتنفس بدل الاختناق.
نظر إليها وابتسم بحزن.. لا يا بنتي الوطن يستحقُّ بقاءَنا بلا دموع.. بلا ضعف.. هو أكبر من أن نبكي على الراحلين؛ لأنه وحده سيبقى… الوطن يحتاج إلى رجال … والرجال لا يبكون.