24 March, 2025

الجنة الخضراء – بقلم عبد الباسط محمد قندوزي

وقفت على البوّابة أرقب خروج آخر مستوطن سكن أرضنا… يحمل حقيبته الممزّقة، وفي يديه بندقية محطّمة خالية من رصاصها… يخرج ويشيّع بصره نحو تلك الأرض التي كان يغتصبها… ويرفع عينيه للسّماء كأنه يطلب مغفرة بعد ضلالة… هو المترنّح بخطواته إلى صحراء واسعة… يمشي خطاه متثاقلة… صرت أشيِّعه حتّى غاب في زحام كثبان وسراب…

    أقفلتُ الباب وتوجّهت إلى الجنّة الخضراء لأسقيَ روحي من عبق زهرها، ولحن الحياة فيها… أنوارٌ لفّت بيوتها ترسل ريحاً طيّبة، ومن أعلى زخّات مطر خفيفة ظريفة تنزل، فتبلّل أرضاً خِصبة تبعث رائحة ممزوجة بذكرى جدّي… ذكرى صوت حقّ رفع ذات مجد، وذكرى بطل نزل الصّخرة، وصعِد الجبل، ومزّق السّهل، فأنبت في كل خطوة سطوة، وخلّد في كل نفس تاريخ أمّة…

    أواصل سيري، فتطلُّ عليَّ أمهاتٌ حملنَ وأرضعن وكفلن وأنبتن من حبِّاتٍ يانعات صالحاتٍ بذرات حسنةً طلعها، غائرة في عمق الأرض تحكم شدّها، وصاعدة إلى سماء المدينة فتورق وتزهر وتبعث سراجاً منيراً يضيء أسطحها…

    سلّمت عليهنّ فإذ بابتسامة عريضة ترتسم على محياهنّ… إنَّ سحراً ينبع من احورارٍ في أعينهنّ… ولعَسٍ في خدودهنّ… ووشم يصوّر عتيق الماضي، فيأسِرُ قلوباً تفتح للحياة راحتيها، هنَّ أمّهات أبكتهنّ رصاصات غادرة ذات ليل، وحين مساء، وعند فجر، وعقب صباح… فزغردن وشيّعن على أكفّهنّ بواسل لا تحصي عند ذكرِهم عدداً… اليومَ تعود أراضيهنّ وبيوتهنّ، فيشدو الطّيرُ الحالم مع أصواتهنَّ الجميلة، ويغرّد لحناً بهيّاً يخرج عذباً..

    حلوةٌ هي الحياة في أعينهنّ، وبديعةٌ نعمها فيها من كلِّ طعمٍ ولون ما يُشبعُ نهمَ جياعٍ وعطشى.

    أواصلُ تَجوالي، فإذ بشيوخ بدت عليهم علاماتُ الشيخوخة… تغطّيهم لحًى بِيضٌ صافيةٌ صفاءَ سريرتهم… لقد شاخ زمانُهم ورفضوا الكِبَرَ قبل أن يغادرَ الغازي من ديرهم… اليوم قد غادر، فيهم من حمله عكّازه ليسير وراء موكب طردهم، ومنهم من غالب وجعَه فصعِد إلى أعلى بيته يرمقهم بنصف عين حالمة، عشقت بقوّةٍ سفرتهم الأبدية أين موطن التّيه في صحرائهم العاتية؟!

    يجلس بينهم شيخ تسعينيٌّ مبتور السَّاق… ضربةٌ موجعة من ذخيرة ساقطة… هل يشعر بألمها؟! لا هي نيشان علّقه… اليوم لا يحسّ ألم قطعها… اليوم يرى كلّ الجدران أوتاداً، وكلّ الجيران حملة لعجز أصاب النّفس… إنه يتنفّس حرّية، ويتنفّس أملاً، ويتغذّى من أنفس طيّبة جرعة حلوة تزيده فتوّة وهو في خريف العمر…

    أمرُّ من زقاق إلى زقاق، وبيدي زهرة أنثر بتلاتها… هي تتوالد وتنبت كما تنبت في المدينة دنيا تأنس لها النّفس المسكونة بالعلل، ففي الحيّ حياةُ بدل ريح الأمس ودخانه ولهبه المشتعل… أقف لهُنيهةٍ فأشتمُّ ريحانة، وأبصر جوهرها فأخشع ثم أسجد… ثم أدنو إلى حجرها ألمسُ إن كان صُلبا أصمَّ، أم ليّناً يحدِّث بلسان فيردد ترنيمة مثل العنادل حين صباح… يشدّني زهرها المتدلّي من على الشّرفات… بريّةُ الأصل، قزحيّةٌ ذات ألوان، سخيّة برحيق يقطر عند زيارة نحل يعشق تورّدها… يرتوي ويرحل حيث بيوته ليُخرج عسلاً مختلفا ألوانه، فيداوي علل النّفس بعد كدر، ويزرع حلاوة دنيا… إنها تحادثني… زهر الجوري… ومن هناك تنحني زهرة “سوسن فقوعة” فتهبُ فؤادَها المتدفّقَ حياة… طيباً… تنتشي روحي وتطرب… وتفتح أذرعها بعد قيد وأغلال أسرتها…

    كل شيء من حولي يحكي قصّة الماضي، وأنا أعيشُ على دبيب تاريخ دوّنته البندقيةُ والحجارة، وأحيا مستقبلاً بوجه الحاضر، فيه ذوات خرجت من تحت الركام، وذوات ولدت من صُلب أجدادٍ وهبوا أنفسَهم لدنيا المعاد… هم من نسلهم… علّموه أن نعيش ليحيا الوطن ونحن في حضن الوطنِ نحيا…

    أراقصُ أطيافا تُنشد لحناً عربيّاً… وألاحق بين تعرّجات المعمار العتيق حسناء سمّوها حلوة… ترمقُني برمش أسكت في داخلي طفلي الرضيع… وتبعث ببسمة من شفاه شقّت صدري فأخرجت وشاحَ السّواد، وحاكت ثوبَها المزهر لتنقشع غيمة ثقيلة، فتبعث من تحتها كواكبها المنيرة…

    أقترب من شبّان حلموا بذات يوم قريب، سألتهم من فيكم “صلاحُ الدين”؟  أجابوني على عجل: “كلُّنا”… نحنُ اليومَ كلُّنا صلاح الدين… نحن اليوم نرسم بسمة… ونستلّ من الأكوان نسمة… ونغدق العطايا وفي كلّ زقاق نرسم رسمة… نحن اليوم في يوم عيد، وغداً يكون عيداً، وذات صباح وعند الظهيرة وفي مساء وفي ليل سعيد نحتفل بعيد، فبالأمس لم يكن لنا يوم سعيد، وها هنا نحن نحيا بلحن ونلبس ثوباً جديدا… سنبني بسواعدنا بيوتنا، ونحرث أرضنا، ونزرع من كل نبتة ألف نبتة، ونجمع أحجاراً كانت سندَنا ذات أمس أمسى بعيدا… سنرصُفها ونرتِّبُ قطعها، ونخرج من صلبها حياة، وفي جوفها نطرق جوهرها فنفجّر سواكنها، ونخرج سكّرها بدل يبس كان لنا مثلَ صديق عتيد قويّ لا يخشى عدواً لدوداً…

    نحن بالأمس نحملُ أرواحنا على أكفنا، ولا نخشى إن ألقيناها في مهاوي الرّدى، واليومَ هنا تحملنا إلى بيت الحياة… فنحن بُناةٌ ونحن الثبات، ونحن جدّ يعود بعد ممات…

    تداعبُني كلماتهم، وأرحلُ بين شوارعها، وأعانقُ ساحاتِها… أقف عند صنبور الحيِّ فأشربُ ماءً وأملأ النفسَ حياة… ثم أسير إليها وبي شغف ولهفة… ترتعد فرائصي ويقشعرُّ بدني… ليس خوفاً أو فزعاً بل غبطة وفرحا…

    هي هناك… زهرة المدائن… تبدو ضاحكةً نظرتُها ثاقبة… لم تعد باكية دامعة… إنّ بها ألواناً ليست عاتمة، وبها إشراقةً مثلَ بريق شمس دانية… قبَّتُها ذهبية تسرّ الناظرين، فتزيّن لهم حياتهم، وتهبُهم قطعة من جنان ساحرة، لعبقها ناثرة… تراها فتطرد ضيق النّفس إلى أسفل أرض غائرة… تدفن فيها كلّ روح ناكرة، لربّها لا تبدو شاكرة… وتنبت بدلاً عنها بلسما يداوي علل أقدار ساخرة… وتستل وجعا سكن أعيناً ساهرة ذات دويّ يدكُّ بيوتاً عامرة… رمتها ذات يوم يدٌ كافرة…

    أيُّ عبقٍ يسحر يعبر من بين شريان وقلب ينبض حلاوةً تقطر من عين سائلة، تنبع من بين جدولين أوُّله عذب، وآخره معتّقٌ مشتقّ من ترياق في الأفئدة يستقرّ، فيقتلع منها أياديَ كانت على الحياة جاثمة…

    إنها بديعة طيّبةٌ نباتها ليّن لا يحمل الإبر… كأنّ بها خضرةً تكسو سهلا فتنبت من زرعها أرواحاً كانت بالأمس لا تُزهر… زهرة مدائن أنت… عشت شامخة وفيك من العزّ ما يمسح كدراً ويداوي جراحاً لم تكدْ تندمل… اليومَ عاد قائدُك في ثوب إنسيّ هبّ من كل فجّ ومعبر… وسار خلف جحافل تتغنّى بلحن يدغدغ صوّان الحجر… وابتلع يبس الفساد، وأخرج من جرابه حياةً تأسِر، وعاد المهجّر يحمل حقائبه بعد أن أحرق ذكرى حتّى للشياطين لا تُذكر…

    هو اليوم حديث الولادة، تناول صفَحاته وبقلمه يخطّ ويسطّر… سيرسم مثل “حنظلة” بعد أن عاد “صلاح” ومعه عادت حلاوة الدنيا، وصوت صفيرِ بلبلٍ كان بالأمس مهجَّرا ترهقه سطوة العسكر، ويعاند صلَفَهم فلا يُكسر… يحتضن بيته، ويزيد، فيطرب وتهجع الأنفس، فيأمن ففي الجوار ألف “صلاح” عادوا، فحرّروا زهراً كان أسيراً في يدي مغلوب مؤجّل كان خوفه مستتراً.

    نظرتُ مجددا وسمعتُ شدو صوت يعلو البيت وكأنها تنادي أن حيَّ على حياة، منها نقطف حلو الكلام، وحلو المعشر، وحلو الأحلام، وحلو ألحان من ترنيماتها لا نضجر… اليومَ عاد “صلاح الدين” فنصر أهله وانتصر، وزفَّ عروس العروبة وزيّنها، فألبسها تاجاً مرصّعاً وثوباً تلفُّه قطع قطفت من جنّة عطرها من نبات مزهر… الكل يغنّي يردّد ذات الجمل، والكل يرقص ذات الرّقص، وكل يبتسم ذات الابتسامة في ليل زفاف عروس عربيّة من خلف تلٍّ ريحُها يتناثر، ليخطف قلوب عشاق باتت لودّها تطلب ولربّها تشكر…

    شكرتُ، وغنّيتُ، ورقصتُ… رسمت وزدت في ألواني، وشيّدت قصراً بجوارها… ناديت أحدهم فلبَّى، فسألت إن كنتُ أغطّ في حلمي أم بي وجع منه عقلي قد جنح ففرّ حيث المفر؟!

    فأعلمني أني بساحة كانت على ملك جدٍّ فتح قلاعَها واستقرّ… ودوَّن تاريخها به نفتخر، واليوم يعود من بنيه بشر، وبشر، وألف ألف بشر، ففتحوا الأبواب المغلقة غصباً، وكسّروا سلاسلها وأصفادها، وطهّروا نجاستها، وغسلوا سخطَها، وأزالوا أدرانَها، ورفعوا أسقامها، ثم استقاموا على عتباتها، ونشروا ريحها المتدفّقَ من جنات دانية…

    مسكٌ يشق الصدور، فيزيح المياه الآسنة… واصطفوا فصلَّوا في حضرتها جموعاً خاشعة، إلى مولاها راجعة..

    أنت يا أخي لا تحلم، أنت أدركتَ زمناً عاد فيها من يبسط عرشه على أبناء الزانية المغتصبة لحق أمة مسالمة… أنت عشتَ زمن قطف ثمراً، وحصاد زرع أنبته يوماً رجالٌ من عزّة الأقوام وأشرافها، فورثوا عزّتهم ولبسوا مجدهم، وصيّروا من أحلامهم حياة حلوة مثلَ صبية ضاحكة، عينُها من شدة الفرح دامعة، تسكنها أحلام لها أجنحة لسبع سماوات عابرة…

    تنقّلتُ وناديت صغيراً لا يزال يحمل قطعة حلوى بيده اليسرى، فسألت إن كنت قد سبحت حيث منامي… أجاب أن ذاك ذهبٌ يعلو قبّة… وتلك ساحاتها تدخلُها أنفس كريمة بعد أن طردت كلّ روحٍ لئيمة، طردتْها فعادت إلى صحرائها ذميمة، فقرَّ عيناً، فإنك لا تحلم، أنت تعيش الحلمَ وترسم على الجدران مثل ما نرسم، وتكتب كلاما يشبه شعراً يطرب الأصم وينطق إثره الأبكم… أنت اليوم تعانق الحلم، وتجلس قربي وأنا ما زلتُ بعدُ لم أبلغ الحلم، وأرى بيتي وبه من حورياتُ الجنانِ ما يطرد كل سقيم من الأحزان، فأفرح وأعد نفسي أن لا أحزن…

    تلك هي الحياةُ من أعلى الزهرةِ تلوّح فندنو، تدعو النفس أن تذوقَ حلاوةً لا تشبه العسل ولا طعم السكر، منها نغنم وبها نسلم وفيها نأمن… وإليها نحجّ ونزيح الهمّ… إننا نعيش عودةَ حبيبٍ جلب مفاتيح بيت العروس، ففتح ما كان بالأمس مقفلاً… فهل لك في رؤيا العين شكّ أم النفس تحدثك بسر أكبر؟! …

    لا تجزع فإنك حيث حلمت بغدٍ أروع، وحيث زرعت حبات أمل فأنبتت ألف مدفع، وألف جندي حمل حبّ زهرة المدائن فزاد بَأساً وصار أشدَّ ضربا لكابوس صار مفزعا… اليوم خفّت أوجاعنا وطردنا من بين ضلوعنا خيباتنا ونزعنا ثوب الأسير وكذا أصفادنا وألبسناها لجلاّدنا ولبسنا غيرها، وأحيينا أعيادنا، فهل كفّينا أم لك حلمٌ نسيّر له جحافلنا لتزيد من نصرنا وفتوحاتنا؟!

    أقفُ منبهراً، فأنا العاشق لعروس تزيّنت رغم حزنها، وحملت مهرها في دواخلي وسرت إليها متودداً، فإذ بي أعبر أزقّتها، وألقى أهلها، وأطأُ أديم أرضها، وأستنشق ريح طيبها… وأبصرُ تاجَها الذهبي يغطي سطحها، فأخِرُّ مثل السّجّد الرّكّع… وبي فرح وتوق لغد يأتي، يزهر فيه ربيعي، وتتفجّر فيه عيون ماء صافية، فتكثر الخضرة وتتدفّق فيها عيشة دافئة هانئة… إنه عاد ببشائر تخيط رتقاً، وتذهب إعياء سنين، عاد يحمل صوت حياة راضية…

Font Resize