6 December, 2024

أم الشُّـهـــــداء -بقـلم محمد أحمد حسن فقيه

أســــدلَ الليــــلُ ستـاره على المدينة المكلومة، وضمهـا ظـلام دامس.. تنـزف دمعاً ودماً.. كانت أم إياد تمشي بتثاقل، وتجـر خلفها كل آلامها وحسراتها.. دلفت إلى غرفةِ أبنائها.. نظرت إليهم فـي إشفاق.. كانوا البارحة خمسة.. والليلة صاروا أربعة!..

غطت أجسادَهم ببقايا البطانيات المهلهلة، ثم توجهت إلى موضع سرير إياد الخالي.. أكبت على السرير، ضمت إلى صدرها مقتنياته، وتحدرت الدموع من عينيها، وأخذت تبكي بمرارة.. حاولت ألا ترفع صوتها لئلا توقظ أبناءَها، لكن نشيجَها ارتفع رغماً عنها..

التفت حسام الأخ الثاني لإياد -والذي يصغره بعامٍ واحد- إلى أمه من ثقوب البطانية الممزقة..

إنه لم ينم، وكيف له أن ينام!؟ وما زالت رائحة دم أخيه عالقةً في أنفه، تشعل في صدره الثأر، لتسريَ حمى القهـر في كامل جسدهِ، وتغرس في قلبه الجراح..

مرت أكثر من ساعة على أم إياد وهي تسح دمعها، وتخنق عبرتها، قبل أن تخرج من الغرفة، ضامّةً أشياء إياد إلى صدرها المكلوم..  سهرت مع الأحزان وأفاق الفجر، وهي متوسدة ألمَها..

بدأت تُـعـدُّ طعام أبنائها بعنـاء، قبل أن تلمح سامراً ذا الأعوام الستة وهو ينطلق خارجاً، وفي يده أحجـارٌ صغيرة..

نادته بصوتٍ مكلوم: سامر.. إلى أين أنت ذاهب؟ وما هذا في يدك..؟!

أجابها من خلف الباب قبل أن يقف أمامها: إنها أحجارٌ أعطاني إياها إياد بالأمس لأرمي بها اليهود..

سقط كلامه على سمعها كطعنات الخناجر، لقد كان سامر مع إياد بالأمس لكنَّ سامراً كان بعيداً عن الجنود الصهاينة وقـريباً من باب البيت، ركض بسرعة وأقفل الباب خلفه، ليفتحه بعد ذلك، ويخرج إلى الشارع باحثاً عن إياد، لماذا لم يهرب بعد أن رمى الحجارة..؟!! وأين ذهب؟ أو أين اختفى..؟!!

رأى مجموعةً من الناس يتوجهون إلى بيتهم، يحملون إياداً بين أيديهم، ودماؤهُ تنـزف بغزارة، تخط على الأرض خطـاً أحمر يهتف بالثأر..

عرف سامر بعدها أن أخاه قد مات، لا.. بل استشهد، والشهيد لم يمت.. هو حيٌّ عند الله..

احتفظ بالحجارة التي أعطاها له إياد، إنها وصية الشهيد.. طال وقوف سامر أمام أمه وهو يستعيد شريط الأمس.. واندفع نحو الشارع والدموع تتأرجح بين عينيه، والحزن يعتصر قلب أمه بعنف، وتتهاوى على أرضية المنزل متهالكة، وتغرق في دموعها..

عاد المساء ولم يعد حسام الذي يكبر سامراً بعام واحد إلى البيت، لقد اعتقله الصهاينة بحجة رمي الحجارة على جنود الاحتلال، وباءت كل محاولات أمه وجيرانه لإطلاق سراحه بالفشل.. ما ذنب الطفولة أن توضع خلف القضبان!؟..

باتت أم إياد تحرس أبناءها الثلاثة، الذين كانوا بالأمس أربعة..!! راحت تغطيهم وتقبل جبهاتهم، لتجد دموع سامرٍ تتحدر على وجنتيه الصغيرتين، لم يكن نائماً إذن..؟!!

ضمته إلى صدرها، وهي تغالب دموعها، وتسأله: لماذا لم تنم يا سامر..؟!

نظر سامر بعينين زائغتين إلى سريري إياد وحسام، وهو يغمغم: إياد مات.. وحسام في المعتقل، ولا ندري على مَنِ الدور غداً..؟!

تفطر قلب الأم حـزناً من كلام سامر، لكنها تمالكت نفسها، وهي تهدئ من روعه، وتذكره بالشهداء وكراماتهم، وتغرس في نفسه حب الجهاد والمقاومة.

صاح سامر: أريد أن أكون غداً شهيداً..

انفجرت الأم بالبكاء، وقالت وهي تغالب دموعها: بل ستصبح طبيباً كما كنت تحلم،  تداوي الجرحى ليقاتلوا من جديد..

 لم يعد للأحلام معنى.. قدرهم بأن يدفنوا أحلامهم مع الأجساد المتساقطة في ساحة الشهداء..

ضمت الأم سامراً إلى صدرها، وهي تهدئ من روعهِ، ولم يدر سامر متى غلبه النوم، غير أنه استيقظ في منتصف الليل على وقع اقتحام جنود الاحتلال بيتَهم، الذين عاثوا في البيت فساداً، بعد أن روعوا سامراً وأخويه، وغادروا المنزل بعد أن قذفوا الرعب في عيون الصغار، الذين كانوا يحلمون قبل قليلٍ بوطـن..

وقف سامر أمام أمه التي تكومت في إحدى زوايا البيت بعد أن هدها الحزن والتدافع مع جنود الاحتلال، والغيظ يملأ صدره، والشرر يتطاير من عينيه.. لقد حُرموا من طفولتهم، فولدوا كباراً بعمق الألم..

هدأ سامر من روع أخويه، وأعاد البطانيات على جسديهما، وهو يمسح على رأسيهما، ليعودا للنوم، واتجه إلى أمه، وأخذ بيدها إلى سريرها لتنام بعد أن سوى على جسدها البطانية وهو يعدها بالثأر، من كل من سرق معاني الطفولة، واستباح حمى الأمة..

اعتملت فـي نفس سامر كل معاني الحقد والقهر، وعيناه تغرورقان بالدموع.. إنه الآن رجل البيت، ويجب أن يكون بحجم هذه المسؤولية..

وقف أمام باب البيت، فبدا عملاقاً بحجم الأمل الذي ما برح يراوده بعودة أرضه ومقدساته يوماً ما.. وقلبه يزمجرُ بالثأر..

رابط مختصر :https://palfcul.org/?p=14518

Font Resize