ينفض عن ملابسه الغبار ورغبةُ النوم يسير ببطء يحرك قدميه بوجع شديد، يبدو كرجل عجوز غادره الشباب للتو بسنوات من الهم والفزع، وقف في طابور الخبز للمخبز الوحيد المتبقي في غزة، يحمل ذراعه المكسورةَ فوق صدره وجرحاً غائراً داخل قلبه لا يتوقف عن النزف.. تلاشى داخل حشد كبير من ناجين لم ينجوا من حسرة تبدل الأحوال وفقد الأحباب.
كان منذ شهور مضت يستعد لبطولة حاسمة في رياضته المفضلة “الكاراتيه”، وكان سيبدأ عاماً دراسياً جديداً يودع فيه مرحلة التعليم الأساسي ليستقبل مستقبلاً مشرقاً يخطط له بعناية وأمل.. ثم حدث كل شيء فجأة بلا ترتيب بلا مقدمات.. قصف المنازل.. تدمير المستشفيات.. هدم المساجد.. إغلاق المدارس.. حصار عسكري، كأنه كابوسٌ مخيفٌ لا يعرف كيف ينتهي.
حين قصفوا منزلَه أخرجوه من تحت الأنقاض هو وأخته الصغيرة ولم يعثروا على جثة أبيه وأمه؛ لأنها تبعثرت وسط الحطام.. كان يود أن يحضن أمه للمرة الأخيرة.. كان يود أن يطبع قبلةً حانية على وجه أبيه.. كان يود أن يحملهم على كتفه حتى مثواهم الأخير كما ينبغي على ابن بارٍّ بأبويه.
حين ذهب إلى المشفى كانت هناك أشلاء كثيرة.. قالت أخته الصغيرة: “هذا شعرُ أختي الكبيرة أعرفُها من شعرها”، ولا تعرف أن جدائل الخيانة أطولُ من جدائلِ كلِّ بنات غزة التي اختلطت أشلاؤُها بأشلاء أخرى في قبر جماعي لا يحمل أيَّ تعريف أو شاهد لمن آواهم.
بعد إسعافاتٍ بسيطة لا تتناسب مع حجم إصابةِ ذراعِه حمل أخته الصغيرة بذراعه الأخرى بعيداً عن صرخات المصابين وأنقاض المنازل.. صار بيتهم خيمة على الحدود… خيمة لا تحمي من البرد والمطر حين يهاجمهم الشتاء بعواصفه القاسية.. خيمة لا تَسعُ أحزانهم وهمومهم وجثث أحلامهم المكفّنة باليأس..
وكان عليه أن يتقمصَ دور الرجال وأن يساعد المرضى والعجائز، وأن يتطوع في إعانة غير القادرين من الأطفال الذين فقدوا عوائلهم في الحرب.. لذلك يأتي كل يوم إلى المخبز يقف في طابور لا نهاية له… لعلَّ الليل يمرُّ والطابور لا يتناقص حتى يطلع النهار إلى منتصفه فيجد نفسَه يحمل ربطة الخبز بعناء السهر..
ربطة لا تكفي من تبقّى على قيد الحياة في الأيام القادمة.. هم يعرفون أنهم لا يجب أن يملؤوا بطونهم ويجب أن يحافظوا على آخر كسرة خبز حتى لو كانت الأخيرة أو اختلطت بدمائهم.
أكثرُ ما يؤلمه أنّاتُ الجوع التي تصدر من خيم الأطفال.. تحاصره كشبح.. كماردٍ عملاق لا يعرف كيف يراوغه سوى بمحاولات الحصولِ على الطعام.. محاولات تبوء بالفشل في غالب الأحيان، وقد تُكلل بالنجاح بعد ساعات من اللف والدوران والتنقيب بين الركام عن أيِّ شي يسد الجوع حتى لو كان أكلَ البهائم تلك التي لم يعدْ لها وجود في شوارعهم.
وحين يصلُ إلى المخيم يبقى أمامه ساعةٌ من وقت الفراغ يطمئنُّ فيها على أخته التي جففها الجوع واليتم، وساعتان من النوم تستريحُ فيها أقدامُه من طول الوقوف والسير.. ثم ينهض بعدها ليعود إلى طابور الخبز كعجوز فقد رغبة الحياة ويمحو من الزمن ذكريات الفقد وهو يتمتم بدعوات تبقيه على قيد الحياة ليدفع غبار الجوع عمن تبقى من أطفال فقدوا كل شيء رغماً عنهم.