قبل غروب يوم أرهقه البرد.. تسللت زخات المطر في الخيام التي نصبها الأهالي في إحدى الساحات؛ هرباً من شبح الموت الصهيوني، كان التوأمان محمد وحمزة يلعبان في الأطراف خلف سرب فراشات ملونة، وكانا يجمعان بعض الخبيزة لعشاء فاخر في خيمتهم المتواضعة التي تزينها ضحكات والدتهم وألغاز والدهم التي يطرحها كلَّ مساء على أطفال المخيم في خيمتهم بوشاح الأحجيات.
عاد التوأمان بسلة صغيرة من الخبيزة، وبعض الخبز الذي حصلا عليه من إحدى العائلات النازحة الجديدة إلى المخيم.
كان العشاء فاخراً في خيمتهم بوجود الخبز والشاي الدافئ الذي جهزته والدتهم.. اجتمعت الأسرة حول مائدتها على ضوء شمعة نازفة الفتيل، وبعض الفراشات تحوم حول الشمعة.
وأثناء العشاء قال الوالد: الليلة ستكون سهرتُنا رائعةً مع الألغاز يا أولاد، سننتظر قليلا حتى يخيم الظلام بمعية الأمان، ويحضر الأطفال من خيامهم، وما هي إلا لحظات حتى بدأت ضحكات الأطفال تتعالى، وخطواتهم تتسارع.. تقترب في فرح إلى خيمة العم خالد أبي التوأمين.
وبكل شغف بدأ الأطفال يتراصّون كالبنيان ويتسابقون من سيكون بالقرب من العم خالد.. قال طارق وهو يضحك: أنا هنا بالقرب من عمو خالد، وأنت يا أدهم مكانك حيث مكاني بالأمس.. تعلو طهارة قهقهاتهم، يضحك جميع الأطفال وتبتسم العمة نور أم التوأمين وتقول: كلّ يوم أحدكم سيبقى بالقرب من عمو خالد.
يتنحنح العم خالد في إشارة لطيفة ليهدأ الجميع، ويصمت الأطفال وترقب العيون ابتسامته وهم يتطلعون إلى ألغازه المثيرة للتنافس.
نظر العم خالد متفرساً عيون الأطفال وقال: سأطرح عليكم لغزاً وكلي ثقة بأن أحداً لن يجيب عليه..
هكذا رفع سقف تحفزيهم
قالت نسرين: إلا أنا يا عمو خالد.. أنا ذكية، وأحل جميع الألغاز، ضحك الجميع وقالوا: سنرى ذلك.
قال محمد: ما رأيك يا أبي هل أذهب لأحضر الفانوس من خيمة عمي نزار قبل أن تبدأ بطرح الأسئلة وتذوب شمعتنا في غسق الظلام؟!!
قال والده: اذهب وعد بسرعة.
قال حمزة: سأذهب معه يا أبي.
رد والدهم وهو يضحك: بشرط أن لا تلعبا وتنسيا العودة.. نحن بانتظاركم
غادر التوأمان وظلت والدتُهما في باب الخيمة تنتظرهما، مرت دقائق الزمن كمرّ السحاب المثقل بالقلق، وإذا بدوي يهز الأرجاء، كالعادة سمعوا أزيز انفجار القذيفة الأولى ثم الثانية، وتوالت القذائف في أطراف المخيم،
صرخت نور، أبناؤنا هناك، يا الله لقد سقطت القذيفة بالقرب من خيمة نزار.. تعالت الصرخات.. أصداء البكاء يعصف بقلوبنا، ترتعد فرائص الأطفال في الخيمة.
قالت نور: التوأمان يا خالد.. التوأمان يا خااااا
قال خالد: ابقي هنا مع الأطفال لا تسمحي لهم بالمغادرة، وأنا سأذهب لتفقد الناس، والبحث عن أبنائنا.
وهناك في الطرف المترامي من المخيم.. انصهرت الخيام.. كانت شظايا القذائف كالمخالب المفترسة في المكان، والتهمت النيران كل ما تحويه تلك الخيام من رغبة في الحياة.. ارتفعت الآهات ونداءات الاستغاثة.. اختلط الدم برائحة المطر والتراب.
وسط تلك الكومة من الآلام والأشلاء، يبحث الناس عن الناجين، وعما يمكنهم فعله من عمليات إنقاذ يائسة، شق خالد طريقه إلى خيمة نزار يبحث مفجوعاً من هول ما رأى، يرتطم بجدار العدم.. وجد نزاراً وزوجته وطفلتهما الرضيعة قد فارقوا الحياة، امتطَوا براق الشهادة.. صار يبحث عن محمد وحمزة بين الخيام المتناثرة.. ها هو يجد ضوء فانوس أخضر.. اقترب بخطوات يكاد يسمع فيها دقات من حوله، اقترب أكثر ووجد طفله محمد ممسكاً بالفانوس، ويده الأخرى قابضة على يد أخيه حمزة، كان مضرجين بالدماء، متشبثين بأيدي بعضهما وكأنهما في رحلة الخلود يعرجان إلى السماء معاً.
يا الله.. يكاد يقولها خالد وهو يبكي طفليه الوحيدين، ويواسي نفسه بتمتمة حاسرة، معاً معاً، استبشرت الأرض بقدومكما، ومعاً استبشرت السماء بعودتكما..
ضمهما إلى صدره، تمتم بأخرى: أيها الحبيبان لا تموتا.. لا تموتا، وكأن للموت أحجية الأطفال
رابط مختصر:https://palfcul.org/?p=14567