” استووا .. اعتدلوا.. أقيموا صفوفكم وتراصوا..سدوا الخلل ” هي العبارات التي أعادت نفسها مرارا و تكرارا في ذهني كأنني أسمعها للمرة الأولى كأنني أكتنه فحواها كما لم أفعل يوما. أتعجب كيف لمقطع فيديو صغير أن يحدث في كل هذا التأثير أنا الذي ما عدت مستلق على فراشي مُختَلٍ بهاتفي، تأخذني العبارات معها بعيدا تضعني خلف الإمام، كتفي إلى كتف من جانبني من إخوتي المصلين، قدمي إلى قدمه، عيناي إلى الأسفل تحدق بموضع السجود، أستحضر خشوعا يليق برب هذا الكون، أنتظر تكبيرة الإحرام، أتوق إلى سماع الفاتحة، أتوق إلى ملامسة الأرض سجودا و بلوغ السماء دعوة وخضوعا و إفتقارا. أترك خلفي هموم الدنيا وما فيها، أرغب بالآخرة، أريد أن ينتهي كل هذا، أنا الذي رأيت ما يكفي فما عادت نفسي تطيق هذا العالم بالملايير السبعة التي تسكنه، العالم الذي بات ملوثا بالبشر لا بالنفايات! العالم الذي عبث بالقوانين و المسلمات فأحال الظالم مظلوما والسارق مالكا وأخذ بيد القاتل يعينه على الضحية، يصرخ فيها ويلومها هي التي كُبلت بالحبال و كُمم فمها فأُدينت على نظرات حقد يراها مخيفة ومجحفة في حقه هو الذي يملك وجه مسالما تزينه دماء الأبرياء!
للحظة كنت هناك خلف أسوار مدرسة التابعين بجانب زوجتي و بناتي نفترش الأرض كما يفعل الجميع هنا، بعضنا ينام و أغلبنا يتقلب يمينا وشمالا يعاني أرقا بات مألوفا في وسط هجره النعاس. كيف أنام وفلذات كبدي حولي يعانين الجوع و الخوف هن اللاتي كن في بيتهن لكل واحدة منهن سرير ومكتب و الكثير من الأحلام. توصيني أصغرهن بقطع حلوى و بسكويت و أوسطهن بدفاتر جديدة -عزيزتي- كانت تحلم بأن تكون مهندسة تعيد إعمار ما هدمته الحرب، تقيم المدارس و المستشفيات وتقوم بدورها على أكمل وجه وتمهد الطريق لجيل آخر من المقاومة. أما كبيرتهن فكانت لا تطلب إلا الرضى تُقبل يدي لا تتنظر مني إلا العودة سالما هي أشبه بوالدتها كن لي أما و صاحبة قبل زوجة و ابنة.
أذكر ما أخبرتني به مساء أمس وهي تقف قبالة النافذة تختلس بضع نظرات إلى الخارج ” لم أكن أتصور يوما أن المدارس التي تعلمنا فيها ستغذو مآو لنا من دون منازلنا”
– هي ذي الحياة يا ابنتي لا شيء يبقى على حاله.
-تتنهد مواصلة التحديق في النافذة ” أ تعلم يا أبتي لم أكن أظن يوما أنني أحب الدراسة إلى هذه الدرجة، تمنيت لو بإمكاننا استئناف فصولنا حينها فقط سنكون قادرين على الخروج من كل هذا الفراغ الذي يحيط بنا “.
تعجزني بِكري على الإجابة لا أجد غير المواساة ردا، أطفالنا الذين اشتاقوا إلى الدراسة قبل اللعب، كبروا قبل أوانهم وحرموا من حقوقهم على النقيض من أقرانهم في هذا العالم، أتساءل إن كانت لا تزال هنالك أشكال للطفولة في هذا القطاع…
أنهض من على الأرض أسند ظهري إلى الجدار ما عدت أرغب في رؤية صور الماضي، تعتصر معدتي ألما و حسرة، يفقد الجدار مغزاه كسند لي، أشعر بأنه غير قادر على دعم ظهري المنكسر، أنا الأب الذي ما عاد يقدر على تلبية طلبات أميراته الثلاث ما عاد يستطيع أن يوفر لهن لقمة العيش، كالجدار أفقد دوري أفقد الكلمات، تنضم إليّ زوجتي تربت على كتفي تقول ” تعوذ من الشيطان ولا تسرف على نفسك ” تشير إلى السقف، تريد ما أبعد من ذلك ” هو موجود هو يرانا وسينهي كل هذه المعاناة كما لو أنها لم تكن يوما ما “. أبتسم في وجه زوجتي أتعجب من قوة إيمانها، تعاني أضعاف ما أعانيه ومع ذلك تحارب من أجل احتواء أسرتها: تهون علي، تمسح على شعر صغيرتها تتفقد الأخريات، تفكر وتبث دعائها الخفي.
كان بإمكاننا سماع أصوات النازحين في صفوف المدرسة الأخرى: أحاديث جانبية، تلاوة للقرآن، همس خفيف خشية إيقاظ من نجح في النوم و بكاء أطفال ورضع ممن فتك بهم الجوع ولم يجدوا ما يقتاتون به، أخال الجميع ينتظر الفجر وساعات النهار الأولى التي وإن تشابهت مع الليل في الأوضاع إلا أنها تحمل النور وتبدد هذا الظلام الذي يزيد من قلقنا قلقا آخر، أعتدل في جلستي محاولا قراءة ما تيسر من القرآن، توافقني زوجتي ” نعم ما تفعل” ثم تضيف قائلة ” إن قرآن الفجر كان مشهودا ” كنت سعيدا لأن بطارية هاتفي لم تنفد و منحتني فرصة التلاوة وبت أسعد عندما اقتربت مني شريكتي حياتي تشاركني الفضل، نقرأ من نفس الشاشة ونحاول أن نعيش لحظات سكون وأمن أصبح من الصعب إيجادها منذ شهور عديدة خلت…
كنت قد توضأت وعدت إلى الفصل أين تنام أسرتي، أتفقد حالهم كما اعتدت أن أفعل قبل الذهاب إلى المصلى فجر كل يوم، تقول زوجتي أنها ستوقظ البنات فلا يجب أن يضيعن صلاتهن. ثم تسير في أثري إلى الباب تشيعني وتحصنني بالدعاء والذكر الحكيم، هي لم تنس فعل ذلك منذ أول يوم من زواجنا ولا أحسبها ستنسى ذلك يوما ما. أنظر إلى وجهها مبتسما ” آمين وإياك”.
“استووا .. اعتدلوا.. أقيموا صفوفكم وتراصوا..سدوا الخلل” تعيد العبارات نفسها تمنحني صورة لما حدث: الدمار يعم المكان بأكمله، أعمدة المصلى قد سقطت وسكونه قد استحال فوضى عارمة، صرخات فقد و ألم وقهر الكل يبحث عن أهله و لا أحد يتعرف عليهم لا أحد يُصدق أن هذا العالم قد يتجرأ ويتعدى على من كان يتعبد آمناً في حضرة خالقه. أمعن النظر أتعرف على أشلائي قد تناثرت هنا وهناك أنا لا أريد لبناتي أن يرين هذا، لا أريد لزوجتي أن تستبدل ذلك الوجه الباسم بهذه الدماء، أنا فعلا أريد أن أبعدهم عن كل هذا. يتوقف الفيديو فتسكن الأحداث بذهني يختفي كل ذلك الخراب فأبصر الجميع خاشعا خلف الإمام لا أراهم إلا وقد نظموا الصفوف واستعدوا لملاقاة الرحمان، هم لم يعلموا أنهم سيركعون و ستلمس جباههم الأرض للمرة الأخيرة، قُبضت أرواحهم وهم ساجدون فلم يرفعوا رؤوسهم إلا والملائكة تشيعهم إلى السماء، رحلوا وتركونا خلفهم، تركوا هذا العالم بكل ما فيه من سواد ووحشية، كان آخر عهدهم بنا الصلاة فطوبى لهم وطوبى لأهل فلسطين.
الفجر الأخير – بقلم عبد الرحمان علي قشي

