الغربة المختلطة بالتناقض المضجر ما بين السكون و الحركة و الصمت والكلام و الحزن و الفرح، كان الوقت يمضي وهو يخطو متعثرا وسط زحام الحياة، كان الحنين يقرأ كتب الوجوه يبحث مابين سطورها وأوراقها عن ملامح الصداقة الحقة ولمسات الود العميق، التي تنفض غبار الذكريات عن رفوف الذاكرة العتيقة التي تحوي مخطوطات التآلف المنسجمة كرونق الحروف المكونة لنص شعري جميل .
في ظلال الغربة، غفى طرفي الساعد و نام ثم أيقظه حلم غزال الريم بعيونه البراقة الفاتنة، جاء الحلم الناصع بعد ليل الكوابيس الطويل الذي حدث لي بعد واقع الحرب المروعة في بلدي السودان.
في الغربة واللجوء تتابعت الأيام فاترة بلا نشاط يحثها على التجديد و الوثب عاليا فوق الهضاب و التلال و المرافئ الزاخرة بالمفاجأت.
مرت ليالي باهتة كان القمر في سمائها خجول الطلة تلمع جوانبه ببريق حسير إنما هي فواتير باهظة الثمن خصمت من رصيد أيامي التي تترقب ميلاد قوس قزح المطبوع على خد الفراشة التي إنتعشت برائحة الخريف الخصيب حين إنسكب على الجدب غيث مدرار من المشاعر اليانعة و هي إرتواء للحنين و ارتماءة متعبة بحضن البسمة .
في اللجوء جرت رياح عنيفة بما لا تشتهيه أي سفينة عابرة في الزمن المسافر الذي يحلم بميناء آمن ترسو عليه ، بعد أن خرقت سفينة الوطن بأيدي السفهاء قيل كلام كثير و ثرثرات ضخمة لذا قررت الصمت لانه الأفضل بالنسبة لحزني العميق و قد أعلن القبطان المأمول تنحيه عن بحر الأزمات الهائلة في أوج العواصف الراعدة بعرض المحيط .
الأوقات ضبابية الطالع خصمت من رصيد الأمنيات لحظات حلوة مثل أغاني الحب الأول وهي لعمري أوقات غالية من ربيع الحياة المكللة بأنفاس الزهور الصباحية النابتة بخمائل الأمنيات الندية و الجو ربيع .
رهق الغربة المزعجة دفعني للوقوف بصمود مشرئب القامة للضوء السامق من أعالي الشمس بوهجها الدافئ المحفز للنمو والازدهار.
حالي كان كبذرة دفينة يغطيها تراب الإهمال تم النمو بداخلي شئيا فشيئا ثم ناضلت ببسالة غامرة لأشق طريقي لرؤية النور انا فنان تشكيلي بعد المشهد الذي رأيته في الحلم بعيون غزال الرسم رسمت ذلك في لوحة قضيت في رسمها ثلاثة أشهر.
و هذا كحال أي بذرة مغمورة يبقى هدفها الأساسي أن تخرج من إنغماسها في التربة تبقى حبيسة لشهور أو سنوات ثم تنهض ، لتصير نبتة ناجحة مبصرة بوعي لتقلبات الحياة حواليها ينعشها الندى و يزكيها الشعاع و يحفزها الأمل و يطربها الغيث الهتان .
كنت كتلك البذرة الصغيرة التي نمت بإذن ربها ثم صارت شجرة كبيرة ظليلة المقيل تهدي ثمارها للعالمين والخير الوفير وفي تاريخها الحافل بالتحديات دونت بأنها إستطاعت مقاومة قساوة التربة و صمدت أمام عصف الرياح و الزوابع وسطوة الآفات لتشق طريقها للنجاح .
من ملامح البساطة بعيون الريم الساحرة تكونت قطعتي الفنية و إنها لمحة عبقرية للجمال الزاهد في متعة البريق الزائف ، للريشة الفاتنة شغف إستثنائي يرنو لبهجة الألوان النقية المصفوفة و المتراصة مثل لبنات الجدران الطينية في قريتي الحبيبة التي تمنح الدفء الرؤوم بتلقائية الترحاب البشوش الذي هو إعلان للكرم منذ الوهلة الأولى لقدوم الضيفان لنواحي القرية.
كل لبنة بناء في البيوت الطينية الزاهية تشير للحب و الكرم و العفة و الصون و الترحاب و البشاشة و التلقائية شكلت تلك المشاعر خارطة للقيم لا تبرح تزدهر بحميمية البيوت ووفاء الصحبة وانشراح الصدور مهما حدث في الحرب أو سيحدث. الأبواب والشبابيك تحكي ملامح من عبق الأصالة في قريتي الريفية البعيدة كل مشهد له صوت يعبر عن احساس رائع ، كل صوت أو ذكرى تذكرني بروعة القرية ، صهيل الأحصنة و نهيق الحمار و صياح الديك و خوار الأبقار و دخان شاى الصباح و حقول السمسم و مزراع الفول السوداني و القمح ومواسم الحصاد، إجتهاد المزارعين وصوت طلمبات المياه و ازيز المحاريث و توقفها في ساعة الاستراحة لشرب القهوة وقت الظهيرة ، ومن داخل البيوت اتساع الحوش و سرير “العنقريب” و “حفرة الدخان” للزينة النسائية و”القرقريبه” و هي أداة لصنع رقائق “الكسرة” السودانية و هي طعام شعبي معروف.
القرية طيبة كالنيل المنساب حواليها ، القرية تحكي الكثير وتقول ما لا يحصي من المفردات الجديدة في معاجم الكون الملئ بالجمال الذي يجود بمعانيه لخيال الفنانين و المبدعين و ذلك لمن يتقن منهم الاستيعاب الدقيق وفهم ما وراء مشاهد الحياة اليومية الاعتيادية .
هنالك تجريد ذكي لفن الصدفة يفطن له المتذوق لرهافة الحس الآدمي الذي تدرج في مسالك الإنسانية وقتما تحكي مشاعره بصدق عما يجول بخاطره، هنالك تفاصيل دقيقة للجمال تظهر بعمق الفن الراقي المعبر عن الأحاسيس التي تصفو من أكدارها بنقاء الطبيعة الريفية المتوجة برونق البوادي ، سوف أخبرك عن مغاني الحياة في الريف بأروع جملة ، قد يتغني بحسنها ذلك الفنان المبدع عندما يتأمل بذكاء جمال الكون و الكائنات فإنه يرسم حين يجلس النور من حواليه يتضح السبيل للبراعة و الإبداع والتميز ، يظل الفنان الطموح يعمل بمثابرة و شغف يراقب تصرفاته في سطح اللوحة بدقة و حذر مشوب بالإتقان و الممارسة عندما تمتزج الألوان في لوحته مع صفاء الذكريات تتجلى الدهشة و يرقص الريم على العشب و تمرح الغزلان في الخضرة و هي مطمئنة لا تخشى قنص الصيادين.
عندما تتحرك الريشة في فضاءات الإلهام تهمس الوردة لأختها بأريحية تامة تحدثها عن روعة الندى، عندما ترسو النحلات و هي تقبل شفاه الرحيق يتحدث العسل بلغة الحلاوة حديث طيب و بليغ قوافيه عافيه و سجعه تغريد وهتافه نشيد .
عندما تتلمس الرؤية الإبداعية مواطن الإشراق ترى ظلال الدهشة و متعة المؤانسة التي رسمت أشكالها من خبايا البهجة و طيات الحزن المرفرف بلؤلؤ الدموع الشفيفه.
كل ذلك لمرايا ناصعة بالحكايات عن القرية ذلك السرد المغرد هي أفانين البلبل الحائر بين الأغصان يحكي قصته للشجرة وللبستان كان حيث الكناري وهو العازف الفريد الماهر في الغناء على أوتار الأغصان و اللحن تحمله اسراب الطيور المهاجرة يظل لحن الوفاء للوطن مرشدها لمنابع الماء و أصول الإرتقاء و هو نبع الإنسان المحب و المخلص للقيم الإنسانية .
أكملت اللوحة و انا في الملجأ و اخترت لها عنوان و هو بريق يلمع بعيون غزال الريم لاقي العمل الفني قبول كبير وهي الآن معروضة في متحف شهير و نسخت منها عدد كبير من النسخ و حققت نجاح كبير افتخر به و أعتز، لأنها تعبر عن ذكريات مجيدة مرتبطة بقريتي التي ترزح الآن تحت وطأة الحرب القاسية الدائرة في الوطن الحبيب.
بالرغم من المآسي و الحسرة اقول بأن زهرات الماضي القرنفلية الجميلة لن تذبل بفعل القطف و إنها ستظل يانعة النضرة و باسمة الثغر بكامل عبقها و الرحيق و ذلك في أحلك الظروف وأقساها هنالك متسع للعشق ان ينمو و مجال للحب ان يستمر و يسمو، سنتجاوز المحنة بثبات و تسامح أكبر من فظاعة الحرب.