6 December, 2024

السَّيِّدَةُ غَزَّةُ – بقلم مليانة

فِي مَنْزِلٍ رَائِعٍ يَقَعُ قُرْبَ شَاطِئٍ البَحْرِ، تَعِيشُ سَيِّدَةٌ جَمِيلَةُ تُدْعَى “السَّيِّدَةُ غَزَّةُ” رُفْقَةَ أَبْنَائِهَا الطَّيِّبِينَ، فَكَانَ بَعْضُهُمْ يَعْمَلُ فِي صَيْدِ السَّمَكِ، وَ بَعْضُهُمُ الآخًرُ يَعْمَلُ فِي الحُقُولِ، يَزْرَعُونَ وَ يَغْرِسُونَ ثُمَّ يَجْنُونَ مَا لَذَّ وَ طَابَ مِنَ الخُضَرِ وَ الفَوَاكِهِ، فَهُمْ مُعْتَادُونَ عَلَى الأَكْلِ مِنْ عَرَقِ جَبِينِهِمْ.

أَمَّا وَالِدَتُهُمْ فَكَانَتْ تَهْتَمُّ بِتَعْلِيمِهِمْ كُلَّ مَا يَنْفَعُهُمْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَ الدُّنْيَا، وَ كَانَتْ تُرَكِّزُ كَثِيرًا عَلَى زَرْعِ مَكَارِمِ الأَخْلاَقِ فِيهِمْ، لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِغَيْرِهِمْ.

فَكَانَتْ تُعَلِّمُهُمْ أَنَّ مُسَاعَدَةَ المُحْتَاجِ وَاجِبَةٌ، وَ أَنَّ احْتِرَامَ الغَيْرِ ضَرُورِيٌّ، وَ أَنَّ نُصْرَةَ المَظْلُومِ لَا بُدَّ مِنْهَا، كَمَا كَانَتْ تَحُثُّهُمْ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَ التَّمَاسُكِ عِنْدَ الأزَمَاتِ، وَ ذِكْرِ اللهِ فِي كُلِّ الأوْقَاتِ، وَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانَتْ حَيَاتُهُمْ كُلُّهَا سَعَادَةٌ وَ هَنَاءٌ.

وَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَ بَيْنَمَا كَانَتِ “السَّيِّدَةُ غَزَّةُ” جَالِسَةً مَعَ أَبْنَائِهَا يَتَحَدَّثُونَ وَ يَضْحَكُونَ، إِذْ وَفَدَ عَلَيْهِمْ بَعْضُ الغُرَبَاءِ المَجْهُولِينَ، وَ تَوَسَّلُوا إِلَيْهَا أَنْ تَتَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ بِبَعْضِ الطَّعَامِ وَ الشّرَابِ، وَ أَنْ تَسْتَقْبِلَهُمْ فِي بَيْتِهَا الجَمِيلِ الوَاسِعِ بَعْضَ الوَقْتِ، فَنَظَرَتْ “غَزَّةُ ” الطَّيِّبَةُ إلَى هَيْأَتِهِمْ وَ ثِيَابِهِمْ الرَّثَّةِ، فَأَدْرَكَتْ حَجْمَ مُعَانَاتِهِمْ، وَ أَشْفَقَتْ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهَا إلّا أَنْ فَتَحَتْ لَهُمُ البَابَ، وَ قَدَّمَتْ لَهُمْ مَا لَذَّ وَ طَابَ، فَهِيَ مُعْتَادَةٌ عَلَى إِكْرَامِ الضُّيُوفِ، خَاصَّةً إِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ.

وَ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ الضُّيُوفَ لَا يَمْلِكُونَ مَكَانًا آخَرَ يَذْهَبُونَ إِلَيْهِ، وَ لَا مَصْدَراً لِلرِّزْقِ يَقْتَاتُونَ مِنْهُ، فَقَدْ طَلَبُوا مِنَ “السَّيِّدَةِ غَزَّة ” حَقْلاً مِنْ حُقُولِهَا التِي وَرِثَتْهَا عَنْ وَالِدِهَا، وَ الذِي وَرِثَهَا بِدَوْرِهِ عَنْ آبَائِهِ وَ أَجْدَادِهِ، مِنْ أَجْلِ الاِسْتِرْزَاقِ مِنْ خِدْمَتِهَا، فَمَا كَانَ مِنَ السَّيِّدَةِ الطّيِّبَةِ إِلاَّ أَنْ وَافَقَتْ رَحْمَةً بِهِمْ، فَاسْتَقَرُّوا تَحْتَ جَنَاحِهَا.

أُعْجِبَ الغُرَبَاءُ المَجْهُولُونَ بِالهَوَاءِ العَلِيلِ لِلْمِنْطَقَةِ، وَ بِمَوْقِعِهَا أَمَامَ البَحْرِ، وَ بِتُرْبَتِهَا الخِصْبَةِ التِي تُنْبِتُ دُونَ زَرْعٍ، فَسَوَّلَ لَهُمُ الشّيْطَانُ أَنْ يَسْتَوْلُوا عَلَى تِلْكَ الحُقُولِ، بَعْدَ أَنْ تَكَاثَرَ عَدَدُهُمْ مَرَّاتٍ وَ مَرَّاتٍ، وَ صَارَ العُثُورُ عَلَى مَكَانٍ آخَرَ لِلاِسْتِقْرَارِ فِيهِ أَمْراً صَعْباً.

فَخَلَعُوا أَقْنِعَتَهُمْ لِتَظْهَرَ وُجُوهُهُمْ الحَقِيقِيَّةُ، وَ بَدَأُوا يُسِيئُونَ التَّعَامُلَ مَعَ أَبْنَاءِ ” السَّيِّدَةِ غَزَّة “، الذِينَ كَانُوا يَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، فَالصَّبْرُ عَلَى فَضَاضَةِ الضُّيُوفِ مِنْ شِيَمِهِمْ التِي تَرَبَّوا عَلَيْهَا وَ تَشَبَّعُوا بِهَا.

وَ ذَاتَ يَوْمٍ اجْتَمَعَ الغُرَبَاءُ وَ قَرَّرُوا أَنْ يُخْرِجُوا ” السَّيِّدَةَ غَزَّةَ ” وَ أَبْنَاءَهَا مِنْ مَنْزِلِهِمْ وَ حُقُولِهِمْ بِالقُوَّة لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، َلكِنَّ ” السَّيِّدَةَ غَزَّةَ ” قَوِيَّةٌ، قَوِيَّةٌ بِإِيمَانِهَا أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَنْ يَخْذُلَهَا، وَ بِأَبْنَائِهَا الذِينَ التَفُّوا حَوْلَهَا، يُدَافِعُونَ عَنْهَا بِكُلِّ مَا أُوتُوا مِنْ قُوَّةٍ، فَهُمْ يُحِبُّونَهَا بِصِدْقٍ، وَ لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنِ التَّضْحِيَةِ مِنْ أَجْلِهَا بِأَرْوَاحِهِمْ.

وَ فِي أَحَدِ الأَيَّامِ، قَامَ الغُرَبَاءُ الأَشْرَارُ بِاصْطِيَادِ عَدَدٍ مِنَ الضِّبَاعِ وَ الكِلَابِ الضَّالَّةِ، ثُمَّ أَطْلَقُوهَا عَلَى أَبْنَاءِ ” السَّيِّدَةِ غَزَّة ” الذِينَ كَانُوا مُنْهَمِكِينَ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَهَجَمَتْ عَلَيهِمْ بِكُلِّ قُوَّتِهَا، لَكِنَّ أَبْنَاءَ ” السَّيِّدَةِ غَزَّة ” كَانُوا أَقْوَى، فَقَدْ كَانُوا لَهَا بِالمِرْصَادِ، إِذْ لَمْ يَخَافُوا وَ لَمْ يَتَرَاجَعُوا، بَلْ صَمَدُوا فِي وَجْهِهَا، وَ قَاتَلُوهَا حَتَّى قَتَلُوهَا.

لَكِنَّ الغُرَبَاءَ كَانَ لَهُمْ بَعْضُ الأَصْدِقَاءِ، الذِينَ كَانُوا يَسْتَمِرُّونَ فِي اصْطِيَادِ الضِّبَاعِ وَ الكِلاَبِ الضَّالَةِ وَ إِرْسَالِهَا إِلَيْهِمْ، فَكَانَ أَصْحَابُ الحُقُولِ يُوَاجِهُونَ تِلْكَ الحَيَوَانَاتِ المُتَوَحِّشَةَ نَهَاراً، وَ يَأْوُونَ لَيْلاً إِلَى أُمِّهِمْ الحَنُونِ لِتُضَمِّدَ جِرَاحَهُمْ، وَ كُلَّمَا سَمِعَتْ أَحَدَهُمْ يَئِنُّ مِنَ الأَلَمِ بِسَبَبِ عَضَّةِ ضَبْعٍ أَوْ كَلْبِ ضَالِّ، ذَكَّرَتْهُ أَنّْ الأَلَمَ سَيَزُولُ مَعَ الوَقْتِ، لَكِنَّ وَصْمَةَ العَارِ إِنْ فَرَّطَ فِي إِرْثِ أَجْدَادِهِ لَنْ تَزُولَ أَبَداٌ، لِذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَ يَتَوَكَّلَ عَلىَ اللهِ، وَ أَلّاَ يُفَكِّرَ فِيمَا خَسِرَهُ، بَلْ عَلَيْهِ التَّرْكِيزُ عَمَّا سَيَفْعَلُهُ لِاسْتِعَادَةِ حُقُولِهِ المَسْلُوبَةِ. 

وَ ذَاتَ لَيْلَةٍ تَلَقَّى الغُرَبَاءُ عَدَداٌ كَبِيراٌ مِنَ الضِّبَاعِ وَ الكِلَابِ الضَّالَّةِ، فَقَامُوا بِرَبْطِهَا حَوْلَ مَنْزِلِ “السَّيِّدَةِ غَزَّة” لِيَمْنَعُوا أَبْنَاءَهَا مِنَ الخُرُوجِ لِإِحْضَارِ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَامُوا بِتَخْرِيبِ قَنَوَاتِ المِيَاهِ التِي تُوصِلُ المَاءَ إِلَى المَنْزِلِ، لِيُحَاصِرُوهُمْ فَيَمُوتُونَ جُوعاً وَ عَطَشاً.

لَكِنَّ بَعْضَ الجِيرَانِ الطَّيِّبِينَ الذِينَ كَانُوا يُرَاقِبُونَ مِنْ بَعِيدٍ مَا يَحْصُلُ، مُنْدَهِشِينَ مِنْ حَقِيقَةِ أُولَئِكَ الوَافِدِينَ الأَشْرَارِ، تَدَخَّلُوا لِتَقْدِيمِ يَدِ المُسَاعَدَةِ لِجَارَتِهِمْ وَ أَبْنَائِهَا، عَبْرَ مَنْجَنِيقَاتٍ عِمْلَاقَةٍ يَضَعُونَ فِيهَا الطَّعَامَ وَ الشَّرَابَ، ثُمَّ يُطْلِقُونَهَا جَوّاً لِتَحُطَّ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، غَيْرَ أَنَّ الأَشْرَارَ لَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ غَضِبُوا مِنْهُمْ غَضَباً شَدِيداً، فَتَوَعَّدُوهُمْ أَنْ يَحِينَ دَوْرُهُمْ لِلِاسْتِيلَاءِ عَلَى حُقُولِهِمْ وَ مَنَازِلِهِمْ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ مِنَ السَّيْطَرَةِ عَلَى مَنْزِلِ وَ حُقُولِ ” السَّيِّدَةِ غَزَّة ” وَ أَبْنَائِهَا. 

قَامَ بَعْضُ أَبْنَاءِ ” السَّيِّدَةِ غَزَّة ” الكِبَارُ، الذِينَ لَا يَظْهَرُونَ كَثِيراً لِأَنَّهُمْ يَعْمَلُونَ فِي صَيْدِ الدِّبَبَةِ، بَعِيداً فِي الغَابَاتِ المُوحِشَةِ بِإِدْخَالِ دُبَّيْنِ عِمْلَاقَيْنِ إِلَى مَنْزِلِ أُمِّهِمْ، وَ ذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ بَعْضِ الأَنْفَاقِ التِي حَفَرُوهَا بِكُلِّ جِدٍّ، دُونَ أَنْ يَعْلَمَ بِأَمْرِهَا أَحَدٌ.

اِجْتَمَعَ أَفْرَادُ الأُسْرَةِ كِبَاراً وَ صِغَاراً، وَ الْتَفُّوا حَوْلَ أُمِّهِمْ الحَنُونِ     ” السَّيِّدَةُ غَزَّةُ “، وَ رَاحُوا يَرْسُمُونَ خُطَّةً مُحْكَمَةً مِنْ أَجْلِ القَضَاءِ عَلَى مَنْ جَاءُوهُمْ مُتَسَوِّلِينَ مُتَوَسِّلِينَ ثُمَّ صَارُوا مُسْتَوْلِينَ، فَاسْتَدْرَجُوهُمْ بِذَكَاءٍ إِلَى بَعْضِ الأَمَاكِنِ المُتَّفَقِ عَلَيْهَا حَسَبَ الخُطَّةِ، وَ فِي اللَّحْظَةِ المُنَاسِبَةِ أَطْلَقُوا عَلَيْهِمْ الدُّبَّيْنِ العِمْلَاقَيْنِ، فَانْطَلَقَا يَقْتُلَانِ وَ يُقَطِّعَانِ الأَشْرَارَ إِلَى أَشْلَاءٍ بِمَخَالِبِهِمْ الحَادَّةِ.

أَمَّا ضِبَاعُهُمْ وَ كِلَابُهُمْ الضَّالَّةُ، فَمِنْهَا مَا دُهِسَ تَحْتَ أَقْدَامِ الدُّبَّيْنِ، وَ مِنْهَا مَنْ فَرَّ هَائِماً عَلَى وَجْهِهِ، بِاتِّجَاهِ المَجْهُولِ الذِي جَاءَ مِنْهُ.

خَرَجَتْ “السَّيِّدَةُ غَزَّةُ” إِلَى أَوْلَادِهَا تُعَانِقُهُمْ وَ تُقَبِّلُهُمْ فَرَحاً بِإِنْجَازِهِمْ العَظِيمِ، فَقَدْ اِسْتَطَاعُوا أَنْ يُثْبِتُوا أَنَّهُمْ فِعْلًا كِبَارٌ.

بَعْدَ تَعَافِيهِمْ مِنَ الجِرَاحِ التِي أَصَابَتْهُمْ، قَامُوا بِحَمْلَةِ تَنْظِيفٍ وَاسِعَةٍ، فَأَلْقَوْا فِي المَزْبَلَةِ كُلَّ الجُثَثِ بَعْدَ أَنْ غَدَتْ رَائِحَتُهَا النَّتِنَةُ تُزْعِجُهُمْ وَ تُؤْذِيهِمْ، ثُمَّ عَادُوا بِهِمَّةٍ عَالِيَةٍ إِلَى مَنْزِلِهِمْ يُعِيدُونَ بِنَاءَ مَا تَهَدَّمَ فِيهِ، وَ إِلَى حُقُولِهِمْ يَخْدِمُونَهَا مِنْ جَدِيدٍ، وَ يَأْكُلُونَ مِنْ غَلَّاتِهَا كَمَا كَانُوا قَبْلَ مَجِيءِ الغُرَبَاءِ المَجْهُولِينَ.

وَ شَيْئاً فَشَيْئاً تَعَافَتِ الأَرْوَاحُ وَ الأَجْسَادُ، وَ عَادَتِ الِابْتِسَامَةُ إِلَى وُجُوهِ أَبْنَاءِ غَزَّةَ لِتَسْتَوْطِنَهَا إِلَى الأَبَدِ.

رابط مختصر :https://palfcul.org/?p=14136

Font Resize