8 December, 2024

أمي لا تكذب أبدا – بقلم زهير بوعزاوي

خدودُ الليل تسدلُ ستائرها على وداع نهار كئيب، تسد الأكنة البالية أنفاس المعتقلين الكريهة المنبعثة من جثثهم المقيتة، تأويهم جدران كتب عليها بالخط العريض عبارة “التعذيب هنا” تحمل وسائد الكارتون المفروشة على الأرض رؤوسا أينعت، تحوم المنية حولها،  تقطف أعناقها المتكئة على أقفاص صدورهم الملتصقة بأجسادهم النحيفة، المتصدئة بتفاعل التراب الممزوج بالعرق المتصبب من أجْبُنهم المحمرة المنكمشة تحت عتبة الجحود، دائما ما يفرون من غياهب الفراغ المسترسل في قتل ضحاياه الواحدة تلو الأخرى، ببرودة دمٍ وبـوحشية قاسية، لا يرحم عديم الرحمة تأوهاتهم الخافتة المختبئة خلف سكون سواد الظلام المخيف، أذيال الهزيمة تجرها أقدام أهلكها المشي بنعال ضيقة مختلفة المقاس مشتراة بدراهم العائلات البئيسة، أنفقتها في سوق الخردوات، تطعن كِعابهم المشروخة الدامية، المنبعث دمها من تحت نقاب الجوارب المهترئة، كلما اصطفوا في رتل طويل ينتظرون دورهم من أجل فتات وجبة؛ يخرسون بها صراخ أمعائهم المتعاركة فيما بينها، حين أعلن عليها الجوع حربا ضارية. صمت رهيب يعم أرجاء السجن الكبير، يدغدغ أعمدة الكهرباء المنحنية خيوطها بثقل زوج من أحذية المقاومين المستشهدين، رماها البقية تضامنا مع موتاهم المسحوقة هياكلهم داخل رحى الدمار، تخرج بذور هياكلهم طحينا أسودا، حاوية واحدة فارغة إلا من خضر فاسدة تقهقه بصوت عاهرة متمرسة اصطادت فريستها، وتلبي رغبته الحيوانية وسط دهاليز يقتات من نعمها حارس عجوز محدودب الظهر يشبه ساحرات الحكايات القديمة؛ خلف السلك الشائك صلبت أوراق بيضاء، تحمل بين طياتها رسالة تحذيرية، تعلن حظر التجول، سقط النصف منها تغازلها الرياح حتى أصبحت تعوي جيئة ذهابا، لترتطم بالأرض على صخب ضجيج تصدره قوارير جنود الصهاينة المحتالين، المليئة بمشروب كحولي محلي الصنع، يقذف عقولهم نحو عالم اللهو واللعب المنتهي فور بزوغ فجر الشمس الحارقة، التي تسقط القناع عن وجوههم الشاحبة، التي تنذر بالقتل والتعذيب والتنكيل، داخل زنزانة فارغة  إلا من أدوات التعذيب، كان هناك شاب أسير في سجن الإحتلال، في عقده الثاني، نحيف الجسد، معلق من يديه الفتيتين بسلسلة متينة للأعلى في هيئة المسيح المصلوب، قدماه مربوطتان بجنزير حديد صدئ، والكدمات تعتلي جسده ووجهه أيضا، وحزوزا رسمها سوط الجلاد في سائر أنحاء جسده، مضرج بدمائه الطاهرة، منهك وخائر القوى بعد ساعات طويلة من الضرب المبرح وشتى أنواع التعذيب الحيواني في حقه،  يقف أمامه ظابط فارع الطول حانق ومتجهم الملامح لا تظهر عليها آثار الرحمة والشفقة، يحدث الأسير بصوت المستهزء والمتشفي في الآن ذاته:

-ها أنت ذا بين يداي، من ذا الذي سيخلصك من هذا العذاب القاسي؟

يرد عليه الأسير بصوت بريء و عذب، وعينيه يستوطنهما الأمل، وقال له بنبرة تنسيه الألم:

-أعدك أنه ستنتهي معاناتنا قريبا، مهما طالت الأزمنة وتغيرت الأمكنة، سنسترجع فلسطيننا حرة أبية، ستكون أنت معلق هنا مكاني لكن لن أعذبك أبدا، أتعلم لماذا؟ لأن الله حرم علينا الجيف سأتركك تتدلى في ساحة شاسعة وفارغة تقتات منك الغربان والعقبان والحشرات، سنقاتل في سبيل أرضنا بالغالي والنفيس، ونطردكم شر الطرد، ستتشردون كما شردتمونا، سنصبح أحرارا وأنتم عبيد في كل بقاع العالم وتحتقركم الدول المجاورة الحاقدة على كيانكم الغاشم، سنعود وهذا وعد الله لنا وهو الذي لا يخلف الوعود.

جفل الضابط وتحول لون سحنته من البياض الناصع إلى سواد قاتم، واحمرت عيناه غضبا حد التعصب وطفق يصرخ:

-أصمت.. أصمت… أنت تحلم فقط وهذا لن يحدث أبدا.

يبتسم الأسير اِبتسامة الشجاع والباسل المغوار وهو يقول:

-أرى الرعب يتملكك من أخمص قدميك، رغم أنني مصفد، ماذا لو كنت طليقا، لا تخف لقد وضحت لك سابقا ما سأفعله بك، أتعلم أنكم جبناء أنت وقادتك حتى تقيدوننا ثم تثرثرون، لكن عندما نتواجه ينعقد لسانكم وهذا حالكم دائما من صفاتكم الجبن والهروب.

صدح الضابط عاليا ولعابه يتطاير من فمه النجس: 

-لن تنطال علي حيلتك ولن تؤثر، أخبرني من سينصرك الآن هاه أخبرني؟

يجيبه الأسير بكل ثقة:

-الله معنا ولا ولن ولم ينسنا أبدا، وقد قال في كتابه الحكيم {إن ينصركم الله فلا غالب لكم}، ورددت كل المهاجع خلفه صدق الله العظيم ورافقها تهليل وتكبير وزغاريد الفرح الله أكبر.. الله أكبر.. ويواصل كلامه-الأسير- أرأيت آية واحدة كانت كفيلة أن توحدنا جميعا وتدل على تعاوننا واتحادنا وتآزرنا هنا وفي ساحة المعركة، إذا وافتنا المنية سيكمل من يأتي بعدنا نضاله وحربه ضدكم وأنتم الخاسرين، على مر العصور كنا نترك خلفا كان خيرا للسلف، وقد طمأنتني أمي مذ كنت صبيا أن القدس ستعود إلى أهلها وتصبح عروس عواصم العرب الذين تخلوا عنا، سنحتفل طويلا ونصلي في الأقصى بالإرادة والعزيمة، سنستعيد تراب وطننا الحنون، ولن يعود لكم أنتم أثر هنا؛ أمس، مات جدي من أجل القضية الفلسطينية والبارحة أبي وأنا اليوم وغدا ابني، وتبق أمي تصنع جيلاً ثوريا بعد جيل وهي التي قالت ذات يوم عندما عرض عليها السفر خارجا من خالتي تقطن دولة أوروبية:

نحن في فلسطين وفلسطين فينا لن نخذلها حتى تعود لنا ونطرد الإحتلال الصهيوني، سننج في استعادتها والنجاح روحه لا تموت مهما حاولتم قتله فينا.

تذكر جيدا هذا وأبلغ رؤساءك وكل العالم أن الأمل مزروع في كل طفل، شاب، شيخ، إمرأة، رجل.. ، إن فلسطين ستعود لنا لأن أمي لا تكذب أبدا.

رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=14018

Font Resize