كانت سماء الشَّرق الجزائري قد اقتربت من المغيب، حيث لفَّ تميم صاحب العقد الثَّاني من العمر السُّترة على جسده الغضِّ النَّحيل حين أحسَّ بنسيم البحر المحمَّل برائحة اليود يدغدغ أطرافه، تمطَّى في كسل وهو يرنو إلى أمواج البحر الزُّمردية التي تعكس تورُّد وجه السَّماء، كانت ملامح تميم تعكس ألوانا من الأحاسيس المختلفة خوف… حيرة وشده… غربة!
كان تميم يلوك أفكار قاتمة جاهد لإبعادها إلا أنَّها تجاسرت فأبت إلَّا أن تصفعه بسيل عارم من الأوجاع حتَّى كادت أن تنخره من داخله، فتذكَّر ماض مكفهرٍّ ميؤوس منه… دراسته التي قضت نحبها قبل فترة طويلة بسبب داء الصَّرع الذي دفعه إلى دوَّامة الرُّسوب المتكرِّر حتَّى وجد نفسه خاوي الوفاض بلا شهادة تذكر، كما خاب حظُّه في مجال التَّمهين، فكيف للورشات أن تقبل بعامل عليللا يكاد يستمرُّ عمله لساعتين مكثَّفتين حتَّى يسقط أرضا مصروعا…
بينما كان الشَّاب المخذول غارقا في وحل أفكاره، سدَّسيل همومه سؤال لطالما قضَّ مضجعه”ماذا ينتظر شابٌّ خائب الحظِّ مثلك من المستقبل يا تميم؟” سؤال قصير نكأ جروحا لم تندمل بعد، ممَّا جعله يفقد متعة العيش ويرى كلَّ شيء حوله مجرَّدا من الأحاسيس.
عاد تميم مع غبشة اللَّيل إلى منزله فطالع والديه بوجه محمَّل بالتَّعب، جبينه مغضَّن ينزُّ عرقا باردا، وعيناه تطوِّقهما هالتان بلون اللَّيل الحالك وجهه شاحب يحاكي شحوب الأموات، وكانت شفتاه بارزتان بلون أزرق مهيب، أحسَّ بالعالم يتداعى من حولهفتهاوى جسده مرتميا على الأرضية فاقدا وعيه.
نُقِلَ إلى المستشفى حيث دامت غيبوبته لثلاثة أيام عصيبة حرص فيها والداه البقاء بجانبه إلى حين استيقاظه، وبعدما استعاد تميم وعيه أُجْريَ عليه فحوصات طبِّية ليتأكَّد الأطبَّاء بعد ذلك أنَّه مصاب “بسرطان الدَّم”!
تلقَّى والدا تميم الخبر بصدمة مفاجئة لهما، في حين لم يكن الخبر ليحرك ساكنا لدى تميم، خاصَّة وأنَّه لم يعد يفرِّق بين الأمس واليوم فكيف له أن يفكِّر بالغد، والأيَّام تمرُّ بثقل على كاهله.
جاءت عطلة الصَّيف حيث استقبلها تميم بين أربعة جدران وأسلاك طبية متشابكة حوله، فقد كانت حالته تنحدر إلى الحضيض، ولم يجد والداه حلًّا إلَّا تصبيره والابتهال إلى الشَّافي العافية والشِّفاء، وحينما قَدِمَ الجدُّ ورأى حالة تميم المتدهورة قرَّر إجراء خطوة يبني بها مجد حفيده الوحيد.
حين ازدانت السماء بلون الشروق البديع التف حول سرير تميم كل من أبويه وجدِّه، خيَّم سكون ممضٌّإلى أن قطعه الجدُّفتنحنح بصوت عالٍ، خفتت الأصوات والتفتوا إليه جميعا، أجال ببصره في حذر مختارا كلماته بعناية: تميم حفيدي أعتقد أنَّه علينا اطلاعك على السِّر الذي حرصنا بالحفاظ عليه أبا عن جدٍّ.
أخرج صندوقا مزخرفا ووضعه على مرأى من تميم ليستطرد: لقد أعطيته لوالدك حين كان في سنِّك هذه، وقد اتَّخذه مهرا لوالدتك.
تحمَّس تميم لمعرفة الكنز الثَّمين فلربَّما يكون منجاة لمصائبه، أخذت أنامله تحاول فتح الصُّندوق، مدَّ عنقه ليرى ما بداخله ليصيح مفاجئا: ما هذا؟، وصوَّب عينيه تجاه والدته مردفا: أكان مهرك مجرَّد… تراب!
أخذ الأب عنه الصُّندوق وأخذ يتحسَّس حبَّات التُّراب موضِّحا: إنَّه كنز غال علينا، من أرضنا الأصليَّة “فلسطين” وهو الذي يربطعرى المودَّة مع تاريخنا وقضيَّتنا.
ضحك تميم يائسا: أهذا ما اخفيتموه عنِّي، لو أخذتم برأيي أهيلوه عليَّغدا حين أموت.
قامت أمُّه مغادرة وهي لم تصدِّق البتَّة ما سمعته، ليأخذ دفَّة الحديث جدُّه: يعود أصلنا إلى قرية القسطل الفلسطينيَّةالمهجَّرة.
زوَّى تميم ما بين حاجبيه غير مستوعب لما سمعه، فابتسم الجدُّ مبيِّنا: قرية القسطل المهجَّرة مثلها مثل مئات القرى الفلسطينيَّة التي تمَّ تهجير أهلها بعدَّة طرق، إما قسرا أو عن طريق التخويف، دُمِّرَتْ أكثر من 530قرية وقتل قرابة 13ألف فلسطيني وهُجِّر أكثر من750ألف في يوم “النَّكبة” السبت 03نيسان 1948، ولهذا نحن هنا بالجزائر.
تناول الجدُّ ألبوما من الصُّور مومئا إلى صورة جنَّة خضراء لها أشجار وارفة في منظر بديعمسَّ شغاف قلب تميمفأحسَّ بالحنين يتسلَّل إلى فؤادهفتساءل مشدوها: أهذه هي قريتنا… القسطل؟
أومأ الجدُّ له بالإيجاب مجيبا: هذه هي أرضنا الحبيبة القسطل، فقد كنَّا قبل يوم النَّكبة قرابة المئة فلسطيني، فقريتنا تعتبر موقعا استراتيجيا هاما لأنها تطل على مساحات شاسعة من الجهات الأربع، كما أنها البوابة الغربية للقدس الحبيبة…
تنهد الجدُّ ليواصل بهوادة: فالقسطل جنَّة بهيجة تنتصب على قمة تل مرتفع مكور تحف بها ينابيع تنسابعلى البساتين المزروعة بالحبوب والثِّمار والخضروات وأشجار الزَّيتون.
شعَّ بريق الحماسة في عيني تميم سائلا: وهل لنا منزل هناك؟ عَلَّنا نزوره يومًا؟
قلَّب الجدُّ من صفحات الألبوم موريا حفيده صورة مفزعة فأوضح: دمِّرت القسطل وطهِّرت عرقيًّا بالكامل، ولكن لا تزال أنقاض البيوت موجودة كما ترى -وأومأ بسبابته للصورة-
خيَّم اليأس على الثَّلاثة وهم يحدِّقون في الصُّورة حتَّى انتفض تميم فجأة محكما قبضته صائحا: ولكن لماذا؟ لماذا تركنا أرضنا للأوغاد؟
ربَّت الجدُّ على كتف حفيده وهو يعرض عليه صورة رجل ذو قامة طويلة، ومن عينيه تلمع نظرات فيها العزم والتَّصميم، ارتسمت على محيَّاه ابتسامة مشرقة تبدي كياسته، يجلِّل هذا الجسمرداء يوحي كل خيط فيه بالورع والتَّقوى.فقال وثغره يفترُّ عن ابتسامة واسعة: في الحقيقة إنَّ للقسطل تاريخ مهيب يخجل منه اليهود… فموقعها الاستراتيجي جعل من القوَّات الصُّهيونية تسعى للاستيلاء عليها، فاستبسل المجاهدون الأحرار في الدِّفاع عن أرضهم في معركة القسطل التي تعدُّ معركة فاصلة في التَّاريخ حيث وقعت بالفترة التي سبقت حرب “النَّكبة” مباشرة، بقيادة الشَّهيد عبد القادر الحسيني الذي بالصورة هنا -أومأ بسبابته للصورة- فنكَّلوا بالصهاينة وأذاقوهم من طعم الهزيمة، لكن اليهود تمكَّنوا في النِّهاية من احتلالها وقتل القائد عبد القادر في يوم النَّكبة… رحمة الله عليهم جميعا…
أغلق الجدُّ الألبوم وحدَّق في عيني حفيده قائلا: ولكن بقي أمر مهمٌ يخصُّك… وهو أنَّه عليك تحرير قرية القسطل من العدوِّ الغاشم.
فغر تميم فاهه غير مستوعب ليستطرد الجدُّ: قبل يوم النَّكبة أخبر القائد عبد القادر الحسيني أبي أنَّه سيظهر من نسله من يحرر الأقصى، وكُنْتُ حينها جنينا في أحشاء والدتي وهي لا تعلم بأمر حملها البتَّة، فتاقت نفس أبي لرؤية وليده الأول لكنَّه استشهد في يوم النَّكبة -رحمه الله- ولا زلنا نعتقد أنَّه سيحرِّر الأقصى بطل من نسلنا وبما أنَّك حفيدنا الوحيد فأنت من سيحرِّرها بإذن الله. همس الجدُّ في أذن حفيده: صدِّقني فكلُّ شيء مخطَّط فقط اعزم وتوكَّل على الله.
ولأوَّل مرَّة شعر تميم بأنّ له هدفا في حياته فأخذ الصُّندوق وتلمَّس التُّراب برفق مخاطبا ذرَّاته: “ها أنذا أرى فيك جنَّة الله التي يجب إعلاء كلمة ربنا عليها وتطهيرها من دنس الصُّهيون إنَّك الحبُّ الذي حوَّلني من كائن عديم الفائدة إلى رجل هام بك وفضَّل الاستشهاد في أرضك الطَّاهرة… وليشهد التاريخ أننا صامدون بإذن الله إلى أن نشهد التحرير”.
لماَّ تحسَّنت نفسيَّة الشَّاب تميم شفي من علله الجسدية، فاستعاد رباطة جأشه وتوجَّه إلى أرضه وحبِّه “فلسطين” محتذيا بخطى قدوته عبد القادر الحسيني ليحارب بضراوة كفارس أشوس ويطهرها من رجس اليهود ويستعيدها بمعية الله.