26 September, 2023

8 تحديات تواجه أدب المقاومة في فلسطين، تعرَّف عليها

بقلم: سمير عطية

عرف الوطن العربي التضحية والفداء ضد الاستعمار على مدى عقود طويلة، وكان أكثر هذه البلاد حضوراً هي فلسطين التي استمرّ فيها الاحتلال الصهيوني بعد أن أجْلَى الاستعمار جيوشه عن البلاد الأخرى.
وإذا كان الأكاديمي الرّاحل قد وثّق لحياة الأدب الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، وتوقف آخرون عند صفحات مهمة من الأدب الفلسطيني كذلك في محطات زمنية مختلفة، إلا أنّ الأيقونة الأدبيّة الراحلة غسان كنفاني كان أوّل من أضاء على أعمال الأدباء وأعطى روحاً جديدة لهذا المصطلح النوعي والمهم، حين أطلق سلسلة من الدراسات كان أوّلها بعنوان: “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″.
هذه الدراسة التي تزامنت مع حضور نوعي لأدباء فلسطينيين أطلقوا شرارة هذا الأدب عبر أعمال لقيت اهتمام الجمهور والنّقاد في فلسطين والعالم العربي قبل أن تكمل حضورها العالمي.
وعبر عقود من مقاومة الاحتلال الصهيوني، وانعطافات حادّة في محطّاتها تاريخيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا، أصاب الثقافة ما أصاب الجوانب الأخرى في الصّراع، يُشبهه بعض المتفائلين
ب “المد والجزر”، أما من يُبرّرون ويسوّقون للتَّماهي مع الاحتلال أو التطبيع الثقافي معه فيرفعون شعار ” الواقعية”.
لقد أثبت هذا الأدب أنّه قوّة ناعمة قادرة على التمدد الإيجابي في المجتمعات، وتقديم القضية الفلسطينية بما لا تستطيع أن تفعله خطابات السياسيين، فسبقت غيرها في كثير من الميادين، ولا نغفل هنا على سبيل المثال حركة الترجمة المعرفية والأدبية لهذا الأدب إلى عشرات اللغات في العالم، فكان سفيراً للقضية، وحضر مع أدبائها، وتكلّم باسم المقهورين والمهجَّرين، والصّامدين والحالمين بالنَّصر والتحرير.
لذا كان من المهم أن نتوقف عند أهم التحديات في عالمنا اليوم، والتي تقف دون عودة أدب المقاومة إلى سابق عهده ودوره وتأثيره.

1 – الانقسام الفلسطيني في الضفة الغربيَّة وقطاع غزَّة:
انعكس على العمل الثقافي المؤسسي الحكومي والمجتمعي، إذ تنازعت الجغرافيا الشّرعيّةَ الثقافيّة الرَّسميَّة، فَضَعُفَ العمل الثَّقافي وتعمّق الانقسام في المجاميع الأدبية، وحال الانقسام دون أن يتطوّر المشهد الثقافي في الضفة الغربية وقطاع غزة بهويته الفلسطينية العامّة، فبات للمشروع السياسي في كلا المكانين أنياب تنهش في جسد الثقافة، تحت ذرائع وطنيّة، وبات من الصّعب للمشروع الثقافي بمؤسساته وأفراده أن يتعافى في ظلّ هذا الخصام الحاد، الذي شهد التضييق على عدد من المؤسسات الثقافية المنافسة من كلا الجانبين، وتهمّش أدباء وقُدّم آخرون، وفرضت السياسة كلمتها على المشهد الأدبي فتبعثرت أوراقه، واختلفت أولوياته.

2- اتفاق أوسلو وتداعياته الثَّقافية والمعرفيَّة على القضيَّة الفلسطينيَّة:
أعطى موافقة للمحتل على 78% من فلسطين، فتشوهت الهويَّة الثقافية والتَّاريخية، وتغوّل الصَّهاينة بأذرع مباشرة وغير مباشرة في تشكيل سياسات الإدارة الثقافية الفلسطينية ومُحدّداتها.
لقد تكرّست عزلة المثقف الفلسطيني في فلسطين المحتلة عام 1948م إلا من بعض الزيارات الموسمية إلى رام الله، ولولا امتداد الهوية العربيّة في نفوس الأدباء الفلسطينيين داخل الخط الأخضر لأحدثت سياسة “الأسرلة” أهدافها بالتذويب الثقافي والمعرفي منذ زمن.
أمّا الفلسطينيون في الشتات وأماكن اللجوء والمنافي، فتواجههم ظروف قاسية، وباتت الكتل البشرية الكبرى في سوريا ولبنان والأردن منذ أكثر من عقد من الزّمن تواجه تحديات إضافية، كما بات الفلسطيني في المنافي الأجنبية يواجه أخطاراً جديدة على لغته العربية ومورثه المعرفي والثقافي، وإن كانت بعض الأسماء قد حوّلت المحنة إلى منحة من خلال تفعيل حضور الترجمة، وهذا ما سأتحدث عنه في مقال آخر.
لقد قطع اتفاق أوسلو الدروب بين الوطن والشتات، وبات الحضور الفلسطيني الرسمي بروتوكوليًّا في بعض البلاد، يُقدّم تراثه وثقافته كأي بلد آخر لا يتعرض لاحتلال! وتنشط ساحات أخرى تحت مظلات تنافسية فصائلية مباشرة حيناً وغير مباشرة حيناً آخر، وتتنافس فيما بينها في بعض التخصصات بعيداً عن الثقافة التي لا بواكي عليها، وأدب المقاومة الذي ينتظر فرساناً وفارسات يأخذن به إلى ميادين الأدب العالمي.

3- التَّطبيع الثَّقافي بين الكيان الصُّهيوني وبعض الدُّول العربيّة.
قامت دول عربيّة بالتّطبيع السياسي والثقافي مع المحتل، فبدّلت في مناهجها التّعليمية وحجّمت حضور الثقافة الفلسطينية في المناهج الدراسيَّة وبرامج التعاون الثقافي مع القضية الفلسطينية.

4- رحيل أهم رموز أدب المقاومة:
شكّل رحيل أدباء المقاومة تراجعاً في دعم أدب المقاومة لما كان لهم من حضور وتأثير إيجابي في المحافل العربيّة والعالميّة، ومن أهم هؤلاء الشعراء عبد الكريم الكرمي ومحمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان.
لم يكن الشاعر توفيق زيّاد على سبيل المثال مُنبتًّا عن تاريخه، وهو الثابت في المكان، قرب ضريح الشاعرين نوح إبراهيم وعبد الرحيم محمود، يُطلق صوته في فضاء الصمود،
ومع كتابات غسان كنفاني وانطلاق أيقونته الثقافية والنضالية بشكل أكبر بعد اغتياله، واكب الفلسطينيون مسيرة الحبر والدّم برحيل الشاعر كمال ناصر، فصار للكلمة صدى وأي صدى، وكان الأديب قادراً على أن يُمثّل هذا الألق بكل ما لديه من إصرار، فحضرت نصوص الأدب المقاوم في المناهج التعليمية، وتصدّرت الصحف والمجلات، والمنابر الأدبية والثقافية، والإذاعات والتلفزيونات، وإذا كان السياسيّون قد حاصروا الأمل بضعفهم، فإنّ الأدباء حاصروا الاحتلال بعنفوانهم، فكتبوا للوطن في المعتقل وعلى أرض سطا عليها المحتل، وفي المنافي القريبة والبعيدة، يكتبون ويُبشّرون ويتوعّدون، لذلك كان فقدهم عظيماً، ولم يكن من السهل أن يُملأ هذا الفراغ، فتأثر الأدب الفلسطيني كلّه، وإن احتفظ هؤلاء الأدباء برصيد حضورهم حتى الآن في نفوس الناس والقرّاء.

5- تَراجُعْ الاهتمام بالعملِ الثَّقافي في برامج الفصائل الفلسطينيَّة:
انعكست الأيدلوجيا الفصائلية ورؤيتها الدَّاخلية للتخصصات على تموضع الثقافة في برامجها، ولم تُدرك تأثير هذا التخصص في الوعي المجتمعي داخليًّا وخارجيًّا.
إنَّ الأدب الفلسطيني يستحق من العاملين للقضية أن يُنظر بعمق إلى تاريخه وتأثيره ومسيرة رموزه، وإذا كان أدب المقاومة أبرز ما يميز هذا الأدب الذي عرف التّحديات المعاصرة منذ إطلاق وعد آرثر بلفور في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1917م، فإنَّ العالم بعطاء الأدباء يُدرك إلى أي مدى واكبوا محطات التاريخ الفلسطيني وأحداثه السياسية، ونكباته ونكساته وآماله النضاليّة، وأشواقه الكفاحيّة، كل هذا موجود في المسرح والقصة والرواية والقصائد الشعرية، بل موجود في صدور الناس وعلى ألسنتهم، فما بال الفصائل تتسابق إلى الجمود في أعمالها تارة؟ وتجنب النظر في أدوار الثقافة ومهمات الأدباء في النضال؟
بل كيفَ تعددت التخصصات والمجالات في أعمال هذه الفصائل ثم لم تحضر في عدد منها، وحين تحضر لا نراها إلا بشكل خجول مرتبك، يُقدّم التنظيم على التخصص، والكوادر على الكفاءات، فضعفت مصداقيتهم لدى الجماهير، وتساءلنا عن هذا التخبط تارة وعن غياب الأدب المقاوم عن برامجهم تارة أخرى.
وإن كان ثمّة من رأي يُكتب في هذا المقام فلا بد لأهل الاختصاص من حماية مشروع الأدب الفلسطيني والأدب المقاوم دون الوقوف على طوابير الانتظار، ففلسطين أكبر وأعظم، والقصيدة التي تنتسب للقدس وللقيم النضالية العليا ولأهل العطاء والفداء، لا يجوز أن تعيش على هامش العمل الفلسطيني بقرار فصائلي أو حزبي.

6- عدم وجود مرجعيّة ثقافيّة واحدة للعمل الثقافي الفلسطيني:
عززت الخلافات السياسيَّة وترهُّل دور منظمة التَّحرير، وتشظّي الجغرافيا داخل الوطن وخارجه، وموقف بعض الدّول من غياب هذه المرجعيّة.
لقد استبشرنا خيراً في بعض المحطّات التي اختيرت فيها القدس عاصمة للثقافة العربية حيناً (2009م)، وللثقافة الإسلاميّة حيناً آخر (2019م)، غير أنّ هذه الاختيارات كشفت عن ضعف العمل الثقافي الفلسطيني لأسباب عديدة، وأهمها غياب التنسيق الثقافي والتعاون الإبداعي، وهذه أعراض مرض خطير هو غياب المرجعية الثقافية الحقيقية للعمل الثقافي الفلسطيني.
إنّ أوّل الخطوات نحو صناعة هذه المرجعية، هو الإيمان الجمعي أنّها مرجعية مشتركة، لا إقصاء فيها ولا تغييب، كما أنّها مرجعيّة تخصصيّة، لا يحق لأهل السياسة أن يستولوا عليها كما استولوا على مفاصل العمل الوطني الفلسطيني، إنّها مرجعيّة ثقافيّة، يضع المثقفون خططها وآلياتها وبرامجها وأهدافها، وتُذلّل لها الصعوبات، ولا توضع العراقيل الفلسطينية أو العربية في طريقها.
إنّ الكفاءات الأدبية والثقافيّة الفلسطينية، بتواجدها في أكثر من جغرافيا، وبوجود الأدباء المؤمنين بفلسطين وعدالتها في كل دول العالم سيستطيعون بناء هذه المرجعية وتطويرها وتثبيتها لخدمة المشروع الثقافي الفلسطيني الكبير، هذا المشروع الذي سيكون أدب المقاومة نواة له، سيعالج الكثير من الثغرات، ويكون قادراً على استيعاب المواهب الشابة والخبرات الثقافية في مركب واحد لا تكون بوصلته إلا إلى شواطئ الوطن.

7- ضعف الدَّعم المالي للمؤسسات الثقافيَّة في الوطن والشَّتات:
في اجتماع رسمي لمؤسسة ثقافية للنقاش في الحلول الممكنة لتجاوز الأزمات المالية التي تصيب العمل الثقافي الفلسطيني، قال أكاديمي وأديب: إنّ الأرض الإبداعية الفلسطينية موجودة، وفيها الكثير من البذور، نحن لا نعاني من مشكلة في أرض الثقافة، بل في الغمام الذي سيهطل عليها لتُنب الإبداع!
اختصر مداخلته في دقائق قليلة، لكنه أوجز في توصيف المشكلة وأبدع في تسمية الحل.
وها أنا أقول أيضاً بعد أكثر من 18 عاماً في العمل الثقافي المؤسسي الفلسطيني: لقد جاء الدّعم قليلاً وغاب كثيراً، فتراجع تأثير المؤسسات، وضعف حضور البرامج الثقافية والفعاليات الأدبية والقدرة على بناء منظومة إبداعيّة متجددة.
يتساءل أديب: كيف يمكن لنا أن نُقنع الأدباء الشباب أننا معهم ونحن نعدهم بطباعة أعمالهم منذ أكثر من خمسة أعوام، فأصاب اليأس من أصاب، وذهب البعض ليتدبروا بعض المال كي يفرحوا برؤية أوّل ميلاد ثقافيّ ورقي بين أيديهم؟
لمثل هذه النكبات الثقافيّة ينفضّ الشباب عن طاولات الإبداع، ويهجر الكثير منهم الأقلام والدفاتر وحواسيب القصّة ومنصّات القصائد! فكيف ننظر بعد ذلك أدباً للمقاومة؟ وكيف نريد أن نترقّب طلوع هلال أديبٍ مقاوم في سماء الثقافة المعتمة؟

8- عالم السوشيال ميديا وقوانينه:
كم من قصيدة أو قصّة تُدفن اليوم في دفاترها أو في ملفات إلكترونية لأنها تعرف مصيرها بعد دقائق من نشرها! مصير الملاحقة والإغلاق والحذف، في أدوار كان يقوم بها الرّقيب الصحفي في وسيلة إعلاميّة ما، فأصبحت لا تترك شاردة أو واردة ولا مصطلحا أو كلمة إلا وأطلقت عليه عقوباتها، وكما قال الشاعر أبو الطّيّب المتنبي:
وَسِوى الرّومِ خَلفَ ظَهرِكَ رُومٌ
فَعَلَى أيّ جانِبَيْكَ تَميلُ؟
لقد أُبرمَت اتفاقيات صهيونية مع كبرى وسائل الإعلام الإلكترونية في العالم، وقضت بوضع رقابة شديدة على المنشورات التي تدعم فلسطين وخاصة في مفردات محددة يعرفها القارئ!
فكيف سنقرأُ حينها أدباً للمقاومة إذا لاحقوا النَّص وكاتبه؟ كيف؟

مدير بيت فلسطين للثقافة

رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=6456

Font Resize