27 April, 2025

منصة تشكيل السرد في قصص «لأوفيليا جسد الأرض»

محمد خضير سلطان

جفّت النقدية العراقية أيام السبعينيات من القرن العشرين، من أن تشير ولو بشيء ما نقدي الى المجموعة القصصية «لأوفيليا جسد الأرض» للقاص الراحل عبد الإله عبد الرزاق، ربما إلا ما ندر.
لقد غاض نبعا النقدية العراقية بشقيهما « القومي والتقدمي» آنذاك، لينحسرا أمام قراءة تحليلية أوعرض صحافي بسيط في الوقت الذي يردد أكثر نقاد وجمهور تلك الأيام ومن بعدهم، زعمهم الغامض، بأنها إحدى المجاميع القصصية المهمة المتزامنة مع صدور مجاميع أخرى، كانت قد حققت دفعة واحدة نقلة فنية واسعة في القص العراقي لما يسمونه جيل الستينيات، لكن ما أن تستوضح عن ما هي أهمية هذه المجموعة، عندها، تأتي الإجابة متوارية وراء إشاعة هي من قبيل حساب وتأكيد أهمية هذه المجموعة من جانب، وحجب قراءتها وتحليلها من جانب آخر.
ومن الواضح، أن هذا الحجب النقدي متأت من أن قصص المجموعة المذكورة، تفتقد كلياً في نسيجها وبنائها القصصي إلى شخصية «البطل الإيجابي» الزائف التي كانت سائدة حينذاك، وتعد أحد اشتراطات المؤسسة الأدبية الحاكمة للقبول والكتابة النقدية في العموم، لكن من الغامض قليلاً، هو كيف موّه الرقيب عملية تمريره هذه المجموعة القصصية، دون أن يتم تمرير استكمال قراءتها من جانب آخر من قبل النقاد ومستعرضي الكتب، الذين يؤطرون الموجهات النقدية المستحكمة لدى المؤسسة الثقافية، فضلاً عن أن الرقيب، يخشى عدم تمرير المجموعة، لأن عدداً من قصصها، كانت قد طلّت على نافذة عربية لا يمكن تجاهلها عبر نشرها في مجلة «الآداب» البيروتية؟ ولعل هذه العملية لم تجر إلا على نحو اتجاهين من الإهمال المقصود، إذ لم تكن عجزاً فنياً عن القراءة والتحليل النقدي، وهذا ليس مجال نقاشه الآن.
صدرت المجموعة القصصية «لأوفيليا جسد الأرض» عام 1976م، 1396هـ عن وزارة الإعلام ـ الجمهورية العراقية – دار الحرية للطباعة، سلسلة القصة والمسرحية. تتفرد التجربة القصصية في هذه المجموعة للقاص الراحل عبد الإله عبد الرزاق بتقديم مستوى من التعبير القصصي، تشترك فيه جميع القصص الاثنتي عشرة ما يشبه متوالية تعبيرية، تعيد توزيع الأدوات الفنية مثل تشكيل الحروف نفسها في كلمات جديدة «ثيمات» متنوعة، ويتأكد هذا المستوى التعبيري من نص إلى آخر، تبعاً لشكل فني، يبدو متشابهاً مثل تشكيل بصري ونغمي «صوتي» مستعاد، يتم بناؤه لغوياً وفنياً باستمرار وبالأدوات نفسها التي تتوزع بعناية ودقة في خرائط القصص، لكي تحقق قدراً مناسباً ومنسجماً مع موضوع واحد وثابت، يظهر عبره محتوى نزعات وجودية وفردية، وربما عرفانية وعبثية، فيما تستبطن ثيمات ثانوية من عبث الانتظار وسط الصخب، وتضاؤل أجساد وجثث داخل ممرات ضيقة، واليقظة الأولى للأرض والأشياء، والخوف من المجهول، وهناك شرعات من الانقضاض بمخالب ضارية متوجة بالدم، ونهايات وشيكة للمصائر مهما كانت ضعيفة أو قوية، مقابل تحد وتطلع لشيء ما لن يحدث.

إن الشكل الفني لدى القاص الراحل عبد الإله عبد الرزاق في مجموعته «لأوفيليا جسد الأرض» سواء في بناء الحدث، أو في معالجة الشخصيات وعرض الأمكنة والأزمنة، ينطلق من تشكيل المستوى التعبيري الآنف ذكره، على أكثر من وجه لغوي وبصري، فالمكان عام غير محدد، لا يحمل إلا صفة وجوده من خلال الشكل الطبيعي له مثل، مستنقع وخنزير بري، نهر وحصان، منحدر وغراب، وتجري عملية إحيائه وتوجيه هدفيته عبر لغة الظلال والأضواء والأصوات، وبقية الأشياء المحيطة وإيحاءات رمزيتها اللغوية مثل، نخلة عجفاء، شجرة مجذورة وسوى ذلك، أما الزمان فهو محصلة حركة الشخصيات في فضاء المكان، ويحسب باللحظات وأحياناً بأدق منها، فيما لا يتعدى السويعات بين ارتفاع ضحى أو عتمة غروب.

وهذا المستوى التعبيري بوصفه منصة تشكيل سردية لجميع قصص المجموعة، يجعل الوسط الباث – لعناصر البيئة – داخل السرد، أي لبدايات ونهايات القصص، مطلاً دائماً، إما على شريط الصحراء أو مساحات الماء ومجرى نهر وغابات النخيل والغَرب وسوى ذلك. من هنا، نصل إلى السمة التقنية الأساسية في تعبيرية القاص الراحل عبدالرزاق، التي تفرّد بها بين مجايليه من القاصين، وهي كيف يستخدم عناصر البيئة في الزمان والمكان والشخصيات، ويعيد تشكيلها في نصه إلى الدرجة التي يحجب عنها فضاءها الاجتماعي المتضمن في النص، وقل الواقعي أيضاً لكنه في المقابل، يمتلك القدرة الفنية والبراعة اللغوية لأن يستعيض عنها بالفضاء الإنساني المجرد، ويضفي عليها مرجعيات واقعية واجتماعية ووجودية مختزلة في محوره الإنساني المجرد، كأنه الوجه الآخر الفني للصيرورة والتشكل؟
يتأكد الوجه الآخر للفضاء الاجتماعي، أو الواقعي في نمو القوة الكاسحة المخبوءة كصهيل هائل لدى الحصان المضطرب، الذي كان في هيئة من ينتظر أن يجيء صاحبه ليفك رباطه المحكم، لكن لم يحدث شيء من ذلك كما في «قصة السيف» أو الصبي الذي يواجه حالة غريبة هي مزيج من الرغبة والفعل الحائر.. ومن الرعب والتطلع إلى المجهول! مثل «قصة الصبي» ويتواصل أيضاً في قصص «الفأر» و«الكلاب» وحتى قصة «القاع الطيني» وقصة «في مكان ما» في شرعات الانقضاض المسعور، التي تعيد تشكيل عناصر البيئة القصصية لاستكمال المأساة.
في السياق نفسه، تشترك الأرض في جميع القصص بوصفها معادلاً رمزياً للجسد واليقظة البكر للوجود، فالموت هو غياب الحياة وعودتها الثانية إلى الجسد الأمومي الأكبر، غير أن هذا الرمز، يسعى إلى أن يكون رئيساً في قصة «لأوفيليا جسد الأرض» فالحدث له مرجعياته الدرامية الشكسبيرية المعروفة، التي تؤكد الرمز في مسرحية «هاملت» من أن موت أوفيليا عودة ثانية إلى جسد الأرض، واقترن تفسير هذا الرمز أيضاً في قصيدة المعري التي تقول‘ إن هذه الأرض من أديم هذه الأجساد، فيما أضاف لها القاص الراحل عبد الرزاق مقتبساً جديداً من الشاعر ويتمان ليعيد تشكيل الحدث في متوالية تعبيرية جديدة.
وما أن يتحرك جسد أوفيليا ليلامس قاع الماء ببطء، حتى تبدأ الكتلة الإشارية من الضوء والضباب والظلال والأغصان بمرافقة الحدث وتشكيل السرد القصصي، وتظهر عناصر البيئة السردية بين الظلال المموهة، وعتمة الماء وذيول ريح مهزومة، لتضم وتحتوي وتشكل مسارات الصعود والهبوط والاستدارة، والكبو والاستطالة بين الماء والطين، لكي يعود الجسد إلى يقظته الأخيرة، ولم تمر لحظات حتى ينشر غراب جناحيه وينعب في الأنحاء فيندفع الجسد المسجى مع تيار الماء ليندمج مع الأرض المجهولة وراء الأشجار.

المصدر: القدس العربي

رابط مختصر||https://palfcul.org/?p=5914

Font Resize