23 October, 2024

ما بعد إدوارد سعيد… والأفق المنتظر

رامي أبو شهاب

إن اهتمام القراء والباحثين العرب، وترقبهم للكتاب الذي وضعه تِمُثي برنن حول إدوارد سعيد يكاد يكون غير مسبوق، ما يقودنا إلى البحث عن عوامل هذا الترقب والاهتمام، على الرغم من وجود الكثير من الكتب التي تناولت هذا المفكر الذي يعد من أهم مفكري القرن العشرين.. لكن هل يمكن تبرير هذا الاهتمام انطلاقاً من القيمة الرمزية لإدوارد سعيد؟ أم أن طبيعة الكتاب بوصفه كتاب سيرة يحتمل نوعاً من إثارة الفضول، ومحاولة البحث عن إجابات؟ أم لكونه أول كتاب يعرضُ لسيرة الرجل بصورة شمولية؟ أم أن مؤلف الكتاب ينطلق من وضع خاص نظرا لطبيعة علاقته مع موضوعه؟ أم ثمة عوامل أخرى؟

المسوغات والتمثيل

يمكن القول إن أحد أهم مسوغات هذا الاهتمام – للكتاب الذي صدر عن عالم المعرفة في الكويت، وترجمه باقتدار محمد عصفور- يتأتى من رغبة الكثيرين منا في التعرف على إدوارد سعيد؛ أي الاقتراب من ذاته، وما يكمن في تكوينه: شخصيته، وطقوسه وأحلامه، بما في ذلك هواجسه، وضعفه، كما أيضاً فكره، ورؤيته للعالم، بالإضافة إلى فلسطينيته. كل ما سبق من مصدر قريب، ونعني طالباً من طلابه المقربين، بيد أننا أمام مسألة تتعلق بمدى قدرة طالب على أن يقدم صورة واقعية أو حقيقية لأستاذه، وهنا ينبثق السؤال المحوري، هل لازم تِمُثي برنن إدوارد سعيد بالقدر الذي يجعله يحوز معيارية موثوقة لاكتناه أبعاد الرجل، سواء أكانت فكرية أم إنسانية؟ وهذا يقودني إلى القول إن الكتاب اتخذ توجهين بخصوص هذا الشأن، إذ نلاحظ تداخلاً عبر التركيز على المكون الذاتي، كما النماذج الفكرية التي انطلق منها سعيد مستلهماً بعضها، وناقداً بعضها الآخر، ولعل هذا ما جعل مؤلف الكتاب يؤثر أن يخلع عليه عنوان «أماكن الفكر» وهو عنوان يحتمل الكثير من اليقينية، التي تحيل إلى القدرة على الإمساك بحقيقة إدوارد سعيد، وتحديد مظان تشكلاته، فهل يمكن أن نعدّ الكتاب امتداداً لكتاب «خارج المكان»؛ بكل ما يمكن أن ينطوي عليه عنوان (خارج المكان) من رغبات واعية أول لا واعية ـ لدى سعيد- بعدم الانضواء ضمن أي سياقات تؤطره، من منطلق وجوده القائم على مبدأ المفارقة، وتجاوز الماهيات، كما نبذ الحدود، وإيثار البقاء في عوالم بينية على مستوى الجغرافيا، ومحكات الهوية، والفكر، فيأتي كتاب «أماكن الفكر» ليعيد موضعة سعيد.

الأثر الإنساني:

يقدم الكتاب تبحراً لا يمكن إنكاره في تتبع تشكل الأفكار، ومؤثراتها، وأثرها، كما يسعى لأن يضيء جانباً من جوانب الإخفاقات التي استشعرها سعيد، وصاغت ذاته، بالتضافر مع رسم حدود شخصيته التي تبدو في بعض الأحيان مزاجية… يؤطرها ذلك الاهتمام بالأناقة والأقلام والثياب، وهذا يذهب إلى رسم حياة نخبوية لأستاذ جامعي عاش في مدينة نيويورك، ينتمي إلى عائلة بورجوازية، له أصدقاء ومعارف لا يقلون نخبوية عنه، علاوة على بيان واقعه المزاجي والنفسي، غير أن هذه الصورة ليست سوى جزء من كيان أي إنسان له طبائع، وسمات، وسياقات نشأة، بل إنها تكاد تكون جزءاً من فاعلية الإبداع، والتمايز، بيد أن ما يهمنا حقيقية، القيمة الفكرية، والأثر الإنساني كما الإرث الذي يتصل بسعيد، وهكذا تتحدد مقولة (ما بعد إدوارد سعيد) التي يمكن النظر إليها بوصفها محاولة لإدراك هذا الإرث، بما يستحق، ومحاولة الإضافة إليه، وعدم التوقف عند حدوده.

تمثيلات إنشائية

لا يمكن إنكار أن جزءاً كبيراً من هذه التمثيلات لذات سعيد – كما تجسدت في الكتاب تبدو مقبولة – لكنها ليست ليس سوى منظور خضع له إدوارد سعيد، فثمة لدى كل منا جوانب عميقة جداً لا تطالها حتى أكثر كتب السيرة جرأة وصراحة، أو لا يدركها أقرب المقربين، فما بالنا بطالب من طلابه – ربما – لا يدرك تعقيد معضلة الهوية الفلسطينية، وتداعياتها العميقة، كون مؤلف الكتاب يصدر مهما – وصلت به المعرفة – عن فضاء غربي مسكون بنماذج، وقناعات تنظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها معضلة سياسية ينبغي التوافق على الاعتراف بالمحتل، وحقه بالوجود على هذه الأرض، وإذا كنا نؤمن بأن إدوارد سعيد كان مؤمنا بفكرة الدولة الواحدة، فإننا لا نتيقن مما في أعماقه من أفكار أخرى – ربما لم يعلنها نتيجة سياقات محددة- ومن هنا فإننا لا نرى إدوارد سعيد سوى من جانب واحد تحدث عنه الآخرون، ولاسيما بعد رحيله، ما لا يمنحه فرصة للرد من حيث النفي أو الموافقة؛ بمعنى أنه شخص عبّر عنه، أو أنه أعيد اختراعه بناء على تمثيلات إنشائية لا تعبر عن حقيقة الذات، ومع ذلك، فإن الكتاب يبدو عملاً جديراً بالثناء، كونه استغرق في تتبع سعيد، عبر الاتكاء على قائمة طويلة من المرجعيات والمصادر والمقابلات، والأهم ملازمة الرجل -إلى حد ما- بل يمكن أن ننظر إلى الكتاب بوصفه من أكثر الكتب شمولية في ما يتعلق باكتناه أبعاد إدوارد سعيد من منظور تحليلي، غير أنه في النهاية ليس سوى خطاب خضع لانتقائية، وتنظيم خطابي من مؤلف أولى عناية ببعض كتب إدوارد سعيد، في حين هون من قيمة بعضها.
كما يمكن تفسير عوامل هذا الاحتفاء كون الكتاب قد صدر في سياق تصور غربي، وهي المعضلة التي تجعل كل ما يأتي من الغرب مبعثاً للاهتمام، وهذا يقودني للتساؤل حول عدم وجود كتاب بالعربية، أو مؤلف عربي تمكن من أن يقدم رؤية متبصرة عن إدوارد سعيد، على الرغم من أن وجود الكثير من الأصدقاء العرب الذين يعلنون اتصالهم بإدوارد سعيد.. ألم يكن لسعيد طلاب عرب وزملاء وأصدقاء؟ ألم يكتب العديد من الكتّاب العرب عن إدوارد سعيد، في حين هناك من ترجم له؟ لماذا لم يلتفت أحد إلى هذه الكتب، أو لم تنل هذا القدر من الاهتمام؟ أم يمكن القول إن ثمة عجزاً عن تقديم كتاب باللغة العربية في هذا العمق يحاور إدوارد سعيد، ويكتنه أبعاده الإنسانية والفكرية؟ لا يمكن أن نرى بهذه السيرة سوى أنها امتداد لهذا الاهتمام بكل ما يصدر من الغرب، لكن الجزئية الأهم بأننا خالفنا رؤية إدوارد سعيد الذي يرى أن الخطابات عبارة عن هالات متعالية كونها خضعت لتنظيم يخترع الشيء، ولا يعني الشيء حقيقة.

إرث إدوارد سعيد

في كتابي بعنوان «الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي» آثرت البحث في إرث إدوارد سعيد الفكري، وأعني الخطاب ما بعد الكولونيالي، وحاولت ألا يتمحور البحث حول ذات سعيد بمقدار ما يُعنى بأثر الذات المعرفي، ولاسيما حين وجدت أن معظم الدراسات ـ في ذلك الوقت – كانت تتوجه إلى إدوارد سعيد لا فكره، وهناك أثرت جزئية مهمة تتمثل في أن النقد أو الفكر العربي بدا غير فاعل في دراسة هذا الإرث المعرفي، ما يعني أنه كان يسير بصورة مغايرة عن سائر عمليات التلقي الإيجابي ـ إلى حد ما – كما برزت في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والأكاديميات الغربية.
إن الاستقبال العربي تمحور حول ما أثاره سعيد في كتاب «الاستشراق» وما طاله من تعميم، إذ اتهم فيه سعيد بتقديم أطروحة تنهض على مجانسة غير مبررة منهجياً، وتناسى عن عمد الجهود الاستشراقية ذات البعد المعرفي الخالص، ما دفع البعض إلى نقد أطروحة الاستشراق من منظور أيديولوجي، ومنهم صادق جلال العظم، ومهدي عامل، وغيرهما، أو تقديم تصور أقرب لنموذج تقابلي أقرب إلى ردة فعل، نعت بدراسات الاستغراب التي تبدو أقرب إلى اختزال غير ناضج للتعامل مع الاستشراق، كما أنه يكاد لا يغادر وعي التبسيط المفرط لقضية تحتاج إلى الكثير من العمق.
نلاحظ أن معظم الدراسات العربية أخذت على كتاب «الاستشراق» عدم قدرته على تكوين خطاب شمولي، على الرغم من أن الكتاب أشهر عن نواياه البحثية، من منطلق أنه لا يدرس خطاب الاستشراق بوصفه موضوعاً؛ بمقدار ما يدرس قطاعاً يتصل بالرؤية الاستشراقية للشرق، والآليات والاستراتيجيات التي كونت ما يُنعت بالخطاب في ابتكار الشرق، وتمثيله في النصوص، ولعل هذا ما دفع سعيد لوضع شروحات وتعقيبات على «الاستشراق» في حين يتحدد العامل الثاني بالاشتغال على ظاهرة الرجل لا فكره، مع عدم القدرة على تطوير أطروحات سعيد، ولعل هذا ما يؤكده كتاب «أماكن الفكر» بأن الرجل على الرغم من أنه نُعت بمؤسس خطاب ما بعد الكولونيالية إلا أن هذا التيار تعرض لسوء فهم واضح، حيث لم يرق لإدوارد سعيد الكثير من التوجهات التي شابت هذا التيار، وبدا في كثير من الأحيان غير معني بما يقع فيه.

العقل العربي

إن التوقف عند إعادة إنتاج المقولات التي تتعلق بذات سعيد لم تعد ذات قيمة، كونها لا ترتقي لإرثه، ولا تنطوي على أي قيمة حقيقية، وهذا ربما أحد عيوب العقل العربي الذي ينشغل بالذات لا بالموضوع، فقيمة سعيد تكمن في ما يمكن أن نضيفه لإرثه، عبر التطوير، والبحث، والاشتقاق لمقولاته، لكن الأهم الإتيان بما هو جديد، فذات إدوار سعيد يكمن سر تفوقها بأنها استطاعت أن تمارس القدرة على مجابهة تيارات نقدية عبر رفض المقولات المنجزة، وتجاوز الذات إلى الفكر، وعدم السقوط في اجترار الأفكار، إنما كان حريصاً على تمكين الجدل، إذ أحدث سعيد تحولاً عميقاً في الفكر النقدي، حين واجه التيارات النقدية الشكلية ضمن قناعات تنهض على أن يجعل من النص أو الأدب أكثر اشتباكاً مع التاريخ، والأخلاق.
إننا بحاجة لأن نستلهم إدوارد سعيد عبر تمكين الشجاعة النقدية، والمثابرة، والبحث عن أفق جديد، لا أن نعيد خطابات التمحور حول الذات، التي أمست جزءاً من ثقافة العقل العربي التي تدمن تقديس النموذج السلطوي.. وبذلك يمكن أن يستمر سعيد عبر إنتاج المعرفة، وتصحيح الاختلالات التي ما زال يعاني منها الفكر العربي، ولاسيما الإقصاء الذي عانى منه الكثيرون، ومنهم إدوارد سعيد الذي حورب في الرقعة العربية، فلم يسمح له بالتدريس في الجامعة الأمريكية، ومن قبله المفكر الفلسطيني هشام شرابي، الذي عبر في كتابه «الجمر والرماد» عن الأسى نتيجة هيمنة النظم السلطوية (البطريركية) ناهيك من عدم تقدير المعرفة لينتهي الشرابي إلى مقولة «لقد نبذتني يا وطني».
الإبداع لا يوجد من فراغ، إنما يجب أن ينشأ في البيئة المناسبة، وهذا ما يبدو مستحيلاً في الوطن العربي، فالنبذ والإقصاء والتجاهل، بات جزءاً من قدر المبدعين والمفكرين الحقيقيين، ولعلنا نحتاج إلى شيء من الوعي عبر احترام الذات، والثقة بما يمكن أن ينتج العقل العربي من فكر، غير أنه -غالباً- لا ينال التقدير أو الرعاية الكافية، بداعي أننا نزهد في ما لدينا، ولا أستبعد بأن إدوارد سعيد لم يكن ليحقق هذا التأثير الكوني لو أنه بقي في الوطن العربي الذي يتقن تبديد القدرات بداعي الانطلاق من استراتيجيتين: مقاومة كل ما هو حقيقي، وتقديم ما هو زائف، علاوة على الانبهار بكل ما يصدر عن الغرب، ولو كان أقرب للوهم، ولعل أولى خطوات التخلص من ذلك تجاوز عقدة النقص تجاه الغرب كونها ما زالت تكبل العقل العربي.

المصدر|| القدس العربي 

رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=5465

Font Resize