رامي أبو شهاب
عند مشاهدة فيلم يتناول النكبة تُستدعى إلى الذاكرة أفلام كثيرة تصدرتها مقولة الهولوكوست، الذي بدا موضوعاً أثيراً لدى صانعي السينما الغربية، التي ما فتئت تقدم نتاجات معظمها كان يستثمر حكايات الناجين، كما شهادات الضحايا القائمة على أحداثٍ حقيقية، ومن شأن ذلك أن يقيم تواصلاً مع وعي المشاهد، بالتضافر مع تأسيس مروية تاريخية من الصعب محو آثارها، استئناساً بما بات يعرف بذاكرة الرضات التي تُبنى على مركزية الهولوكوست من أجل كسب المزيد من التعاطف مع دولة الكيان الصهيوني، وغالباً ما يلجأ إلى استثمار شهادات الناجين، وتأطيرها في سياق فني تخييلي من أجل أن يحدث صدى لدى متابعي هذا النوع من الأفلام، وأبرزها الفيلمان الأشهر «لائحة شندلر» 1993 للمخرج ستيفن سبيلبيرغ، و«عازف البيانو» 2002 للمخرج رومان بولانيسكي.
الواقع والإضافة
في فيلم «فرحة» 2021 للمخرجة الأردنية الفلسطينية دارين ج. سلام، وضمن إنتاج أردني دولي مشترك، بدت عوامل التأثير متعددة الطيف، حيث استطاعت المخرجة – باقتدار- أن تشقق مقولاتها عبر الاتكاء على مروية المرجعية الواقعية التي تُؤطر بعتبتين في الفيلم، شكلتا أثراً في تقييم وعي المتلقي لتكون شكلاً من أشكال المروية المضادة، التي تعمد إلى توظيف الذاكرة.
ففي افتتاح الفيلم نواجه بعبارة تقول إن أحداث الفيلم حقيقية، وفي نهاية الفيلم ثمة عبارة متممة تقول إن الفتاة (فرحة) اسمها الحقيقي «رضية» وهي المرأة التي سردت القصة لوالدة المخرجة دارين، التي تمكنت بدورها من استثمار القصة نحو ما يمكن أن ننعته بسينما تعتمد أرشيفاً تخييلياً، من منطلق أن الأرشيف حين يضاف إليه وعي جمالي تخييلي فإن ذلك يسهم في تحويل الواقع المجرد إلى موضوع فني، بيد أن هذا تحصّل على سياقات أخرى أسهمت في ترويج مقولته تبعاً لمعايير الفرجة لدى الغرب، الذي يبدو جزءاً من المشكلة، إذ يحول دون تمكين الفلسطينيين من نيل حقوقهم بداعي التعاطف مع المروية الصهيونية، في ظل غياب تشكيل خطابي فلسطيني فاعل لمخاطبة الوعي الغربي.
ينطوي الفيلم على الكثير من العناصر التي أسهمت في تمكين قيم التلقي، كي يكون فاعلاً في زحزحة المتخيل، أو تلك الاستيهامات المتصلة بالنزاع العربي الإسرائيلي، وفي ظني أن هذا النوع من النزاع ربما يُكسب ثقافياً، قبل أن يُكسب في انتصار عسكري أو سياسي، ولاسيما في ظل الأوضاع الراهنة، وهنا ينبغي التأكيد على أن مكامن الخوف في العقلية الإسرائيلية يتحدد في سعيها الدائم إلى تمكين مقولتين: الأولى وقائع وجودها بوصفها وجوداً طبيعيا قوياً، والثانية تأكيد مقولة الضحية في الماضي، ومن هنا تكمن المحاذير من عمليات التطبيع، بالتّضافر مع الادعاء بقيمية وجود (هذا الكيان) وأخلاقيته، ضمن خلفية تاريخية توراتية تحمل الكثير من الادعاء والزيف.
يرى جيل دولوز أن الحركة لا تمتزج بالمكان الذي اجتازته، فالمكان هو الماضي، في حين أنّ الحركة هي الحاضر، كما فعل الاجتياز، ومن هذه الجزئية يمكن أن نلج عوالم الأعمال التي صدرت في سياق بناء مروية مضادة – بما فيها فيلم «فرحة» الذي استثمر حكاية المكان، وماضيه عبر مزجه بالحركة المؤطرة دلالياً في سياق توثيقي تخييلي.. فإذا كانت النماذج (السينمائية) تعمد إلى تفكيك مروية الخطاب التاريخي التوراتي، كجزء من الصراع، فإن هذا يبدو في بعض الأحيان غير فاعل، كونه ينزاح إلى خطابات لا تبدو معنيّة في مخاطبة الوعي الغربي، وعقله الذي يبدو مأزوماً من ناحية هذه الصّيغ، فالصراع القائم على نقض مقولة النموذج القيمي الإسرائيلي والصهيوني، وتعريته يعدّ أحد أهم الأدوات التي يمكن أن تعني الكثير، وربما تحدث ضرراً كبيراً في النموذج التمثيلي، وصورة هذا الكيان.
لعل قيمة الفيلم لا تكمن فقط في خطابه، أو ذلك الأداء الذي تمكن من توظيف عدة معطيات سوف نأتي على ذكرها، لكن عبر الإفادة من حرية المنصات الرقمية التي تعرض، ونعني منصة «نيتفليكس» التي يسهل الوصول إليها في جميع أرجاء المعمورة، وعليه، فالرسالة هنا تتجاوز الكثير من العوائق، حيث يمكن أن يظهر الفيلم كأحد المقترحات للمشاهد، وأن يثير الجدل، وأن يتمكن من تقديم مرويته وخطابه ووجهة نظره بكل بساطة، ويسر. وإذا ما تجاوزنا فاعلية المنصة فإن الفيلم ينطوي على مستويات من التأثير، التي تتضافر مع حرية التعبير التي تعتمد البث الرقمي، عبر استثمار سطوة الإحالة إلى الأحداث حقيقية، وهذا بالغ التأثير في عملية توليد وعي القارئ، وفتح أفق التوقع، كما كسر ما كان ينطوي عليه، لاسيما لدى الوعي الغربي من أكذوبة تتعلق بأخلاقية الجندي الإسرائيلي، وهنا تكمن أهم مفاصل التأثير، عبر ثلاثة عناصر رئيسة، وهي : التكثيف الدلالي، والابتعاد عن المباشرة عبر الاستغناء عن حوارات لا مؤثرة، بالتضافر مع تمكين الاختزال البصري، عبر كوة تعتمد الرؤية من العتمة إلى النور لبيان الصورة المحجوبة.
لغة المشهدية
يمكن القول إن مقولة الفيلم تتعالق بالفضاء البصري ضمن التركيز على مشهدية تعتمد الصمت (غياب الحوار في الجزء الثاني) حيث يترك التعبير للصورة والفعل والحدث (الحركة) كما الموسيقى والأداء التمثيلي، وهكذا يبدو إسهام المشاهد في توليد الخطاب، أو اللغة بالتعاضد مع التماهي مع وعي الفتاة «فرحة» إذ تتقن المخرجة تأثيث مقولتها السينمائية حين تعتمد تواشجاً بين عناصر متعددة، فهي تعتمد القصة (الأرشيف) والحدث الصادم كي تتجاوز معضلة اللغة، ممثلة بالتلفظ حين تنحصر الحوارات في الجزء الثاني من الفيلم، كي تقترب ضمن سياق معنى الفرجة، التي تبدو أداة فنية لتمرير ما هو مسكوت عنه بسلاسة، ودون تعقيد، فالحركة تؤدي معطى سيميائياً من منطلق التمايز بين الصمت، وغياب اللغة (التلفظ) كما يرى يوري لوتمان، حيث إن كل فيلم يحتمل لغة سينمائية خاصة به. لطالما كان حضور التلفظ اللغوي جزءاً من ضعف مشهدية الصورة على مستوى الابتكار في تجسيد النكبة على المستوى السينمائي، وأثر ذلك عالمياً، فهذا الفيلم استثمر المرجعية الواقعية، ضمن أداء ورؤية ابتعدت عن الشرح، كونها اعتمدت تبئيراً يعتمد منظور فتاة صغيرة في الرابعة عشرة من العمر، تحلم بإكمال تعليمها عبر تحديها بعض العادات والتقاليد التي تتصل بتزويج الفتاة في سن مبكر، وعلى الرغم من أن الفيلم انطلق من هذه الجزئية، واعتمد شأنه شأن الكثير من الأعمال السينمائية التي تتعلق بموضوع النكبة والقضية الفلسطينية، تبني منظور نسوي قد يتصل بتمكن إشكالية القمع وانحصار الحرية بوصفها جزءاً من الثقافة التي أنشأت الهزيمة، غير أنّ هذا الفيلم كسر التوقع، حين أبرز الأب موافقته لالتحاق ابنته بالدراسة في المدينة، لكن دخول العصابات الصهيونية للقرية أوقف الزمن، وبتر الحلم، كما حال دون تمكين تطوّر النموذج الطبيعي للشعوب، التي خضعت لأنظمة استعمارية وتمييز عنصري، كما ناقش ذلك العديد من الدراسات المتصلة بالخطاب ما بعد الكولونيالي.
يعتمد المسلسل تمكينا رؤيويا على مستوى الصورة والحوار، والنموذج التقابلي، ومن ذلك النموذج الإيجابي بصرياً لمشهد القرية على الربوة، وحوارات بين الطفلة «فرحة» وصديقتها تتصل بأحلام المستقبل، بالتجاور مع إشارات إلى الحضور الإنكليزي، ومقدمات تشير إلى اقتراب المواجهة، وإن بدا ذلك استهلالاً نمطياً، غير أن فعل الانتقال من الفضاء المفتوح (الإيجابي) إلى فضاء مغلق قد أسهم في رسم الحالة بهدف رسم اقتطاع من واقع النكبة، ومن ثم تتغير الأحوال حين يبدأ الانحسار من أفق القرية المفتوح لينتهي إلى غرفة المؤونة في المنزل، التي وضع الأب فيها فرحة خوفاً عليها من العصابات، فيتركها لعدة أيام لنشهد مقولة النجاة تختزل في حيز مكاني، وشخصية واحدة، وهذا يعدّ نجاحاً على مستوى تكثيف الرؤية، وبناء حالة شعورية لدى المشاهد، من حيث كسر لمعنى الإيهام نحو التماهي مع واقع الشخصية في البحث عن خلاص، وكل هذا يؤطر في مشهدية: عتمة الغرفة، وكوة بسيطة تضيء، عمليات البحث عن الطعام، والماء، وقضاء الحاجة، ومواجهة الخوف.
تتصاعد الأحداث لتنتقل عدسة الكاميرا من التركيز على فرحة بوصفها موضوعاً إلى أن تصبح ذاتاً شاهدة، فتشهد جريمة تطهير، حين تقتل العصابات الصهيونية أو الجيش الإسرائيلي أسرة تتكون من أب وأم وطفلتين، في حين يترك الرضيع الذي ولد لتوه على مرأى من فرحة ليموت من الجوع… مع عدم القدرة على منع كل ذلك، لكن عبر كوة غرفة المؤونة التي تتحول إلى بؤرة تثبيت الفعل المشهدي القائم على الذاكرة في وعي المشاهد، فالمعاينة البصرية التي تعري مقولة الآخر الأخلاقي، تختزله وقائع مشهد ضابط إسرائيلي يأمر جنوده بإعدام العائلة الفلسطينية، مع مشهد آخر يجسد تردد جندي شاب في الإجهاز على الطفل الرضيع، فيفضل أن يتركه وحيداً على الأرض بعد أن يضع خرقة على وجهه كي يموت في العراء، وهذا يأتي في ظل وجود متعاون يعاني من صدمة إعدام العائلة كونه كان يتقصد قيادة الجيش إلى أماكن وجود الأسلحة لا للإجهاز على الفلاحين؛ ما يضفي نوعاً من المصداقية على الفيلم، من حيث بيان قيم جدلية داخل النفس البشرية من كلا الجهتين.
تخرج فرحة من الغرفة عبر إطلاق الرصاص على قفل الباب من مسدس وجدته مخبأ، حيث كان والدها يدعم الثوار… تخرج «فرحة» وهي تنظر إلى الخلف، لكنها لا تطيل النظر إلى الماضي، إنما سرعان ما تغتسل كي نراها تسير في طريق، وفي الأفق بقية من نور الشمس، وهكذا تجسد «فرحة» تلك الفرحة المسروقة من شعب بأكمله.
ختاماً، في سياق هذا التوتر الذي يدفع المتلقي لتمكين جمالية الأداء للتعبير عن الواقعي عبر كوة الغرفة، التي تتحول قيمة مضافة حين نستعين بمقولة كهف أفلاطون، حيث لا نرى ظلال الحقيقة، إنما نرى الحقيقة عينها، بينما كان العالم لا يعرف أو يتجاهل الحقيقة، أو حجبت عنه بصورة أو أخرى، وقد حان الوقت، لكي تعكس عبر الرؤية من الداخل للخارج، أو مما هو مضمر إلى ما هو ظاهر، حيث تتجلى معنى الشهادة عبر تعاضد المرجعية التوثيقية والنموذج الروائي، فحين ترى فرحة ممارسات الاحتلال بقتل العائلة، وترك الطفل فإنها هنا تجسّد إحدى أهم حساسيات الخطابية المتصلة بالوعي الغربي، بوصفه يطرح نموذجا أخلاقياً، فلطالما سعت إسرائيل إلى محاولة تقديم نفسها بوصفها نموذجاً أخلاقية ديمقراطياً متنوراً يمارس وجودا حضارياً، مع محاولة طمس المروية الدموية التي سعت وسائل الإعلام عبر نماذج خطابية تخيلية وتوثيقية لطمسها، غير أن الفرجة المؤطّرة بالتوثيق التخيلي ضمن رؤية إخراجية متقنة… وجدت في منصة عالمية فسحة لتمرير الرسالة التي أثارت ما يمكن أن ندعوه ضرراً حقيقياً، حين أعطبت ادعاء الصورة القيمية لدولة الكيان الصهيوني وأفسدتها.
المصدر: القدس العربي
رابط مختصر||https://palfcul.org/?p=6176