6 November, 2024

ذاكرة الموت في السرد الروائي الفلسطيني، رواية بنت من شاتيلا نموذجاً

ثورة حوامدة

يمكن باختصار شديد أن نعتبر رواية أكرم مسلم “بنت من شاتيلا” من بين الروايات القليلة التي تعطي للموت هيئة بشرية من لحم ودم، ويقدمه لنا في الرواية دون سبق إصرار على أنه شخصية حقيقية ضمن شخوص العمل، والأهم هنا أن يكون الراوي قد اقترب من إعطاء الموت دوراً جديداً في سياق المتن الحكائي ألا وهو دور الراوي والسارد. ليخرج لنا السؤال المهم على موقف الموت “الشخصية السردية” من الموت “الشيء المجهول”.
بما أن كلمة الحياة كلما كتبت فإنها تقال دفعة واحدة عن كل الأشياء، لكن الموت يغاير هذه الفكرة ويجعلنا ننطقها على دفعات عن كل الأشياء، بتراتبية ملفتة. وهذا ما ينعكس على السرد الروائي داخل العمل، نجد أن الحواس تتعطل في ملاحظة حياة الأشياء المحيطة، وكأنها تتهاوى من ارتفاع عال، إلى قاع سحيق لا نهاية له، تسقط سقوطاً مستمراً. وباستطاعتنا هنا أن نسقط رواية سارماجوا “انقطاعات الموت” على الواقع السردي الفلسطيني، وأن نتساءل عن ماهية الموت، وهل يطال الجسد فقط، أم يجتث ما تتركه الحياة على هامشها ومركزها لحظة واحدة، في بعدها النفسي الإنساني.
المشهد الأول في الرواية يبدأ بالتقاط المصور صورة للموت، جثث مكدسة في فناء منزل في مخيم شاتيلا. ما يظهره لنا هذا المشهد ضمن المبنى الحكائي، أن الموت في حالة السلم يختلف في شكله والتقاطاته عن الموت في لحظات الحروب. في حالة الموت الطبيعي تجد الميت محاطاً بالباكيين، لكن في حالة الحرب وتكدس الجثث، حين تنام الأسرة كاملة إلى جانب بعضها البعض نومتها الأخيرة، فمن سيبكيها؟ الغرائبية الواقعية في ذات المشهد حين يلتقط المصور صورة للحياة والموت معاً، صورة العائلة الأشلاء والناجية الوحيدة بينهم، والتي ستجعل سيميائية اللحظة ظاهرة. وستكون هذه الالتقاطة دليلاً عن هيمنة الموت على كامل المشهد تاركاً للفتاة الناجية مهمة التضاد المادي. المدهش في تلك اللحظة قدرة المصور على التقاط صورة لرائحة الموت، ستبقى ثابتة في كل لحظة تمسك فيها الطفلة صورة العائلة. وستتطور تلك الرائحة في مخيلة الطفلة لتكون نداً، هذا الموت الذي سيكون عدواً تدركه الحواس، والمواجهة معه ليست إلا انتصاراً لحياة واستمرار الرواية الفلسطينية من المحو وليس لأجل الأجساد.
صوت الطفلة أسكت بفعل فاعل، الموت نفسه أسكتها عن العويل والصراخ والبكاء، ليشهد السرد هنا على موت الصوت. يحضر في الأذهان جيداً، مشهد النهاية في رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” حينما استكان مروان وأسعد وأبو قيس لموت الصوت الحي داخلهم. الثيمة الرئيسية في الرواية هو الهروب من الموت لأجل الحياة، لكن الموت كان كذبة الجغرافيا، فمات الأبطال في خزان الماء المتهالك دون صوت.
القسم الأول من الرواية الصادرة عن دار الأهلية يضعنا أمام مشهد أصم للموت، تموت السيدة الألمانية على المقعد المقابل للتلفاز، ويتابع الموت نشرة الأخبار بدلاً منها. هذا المشهد يقابله على النافدة المجاورة الفتاة الناجية من المجزرة، التي كبرت وأصبحت الوثيقة الوحيدة الحية على وجود العائلة المفقودة. الموت في الرواية لم يكن أكثر من شخصية تتحرك وفقها أقدار الشخصيات أينما تلفتت. وأن الناجية الوحيدة يوماً ما كانت تبصر الموت كما تبصره الآن في ألمانيا، تماماً مثلما كان يبصرها في كل محطة عمرية.
على ضفاف النهر، تلتقي الفتاة الناجية من المجزرة، بشاب فلسطيني من رام الله قادم في زيارة تبادل ثقافي. يكمن السبب وراء سهولة الحديث والتعارف هو أن الموت يجمعهما. ثمة علاقة غير مباشرة بين مجزرة شاتيلا في لبنان وهامبورغ في ألمانيا. الموت له رائحة تتداعى وتحضر بشكل سحري، يُمنح الشخص المطلوب بموجبها مساحة كافية للتذكر. ما يؤكد أنه لا يتذكر الموت إلا الأموات الأحياء في جزء ما من حياتهم.
عودة إلى “حورية” الناجية من المجزرة، وجدت حية بين جثث سبعة أطفال وأمها الحامل، اعتبرت في مرحلة ما أن حياتها لم تكن أكثر من “موديل مجزرة”. عودة السرد الروائي في العمل للحديث من جديد بعد اعتماد تقنية القطع، هو لدلالة مهمة – خاصة بعد سنوات كثيرة من الابتعاد عن المكان – ليست حالة للربط بين زمنين، بل استمرار للفعل نفسه في كلا الزمنين.
شخصية الخالة في العمل محورية باتجاهين، أولهما الدور الإعلامي للحديث باستمرار عما حدث لعائلة أختها وتهويل الفاجعة على الرغم من مرارتها، والبحث عن حياة كريمة لحورية من خلال المنظمات الإنسانية التي زارت المخيم مراراً. الخالة ذاتها استغلت حادثة الموت، وتطاولت على سلطته، لتصنع له هيئة وشكلاً آخر. أخفت عن الصحافة في حديثها نجاة أخ حورية من المجزرة، وتركتها في مواجهة الموت وحدها، موت الحكاية المفتعل، وليس الفعلي. ظهور الأخ كان تغييراً سردياً ضمن المتن الحكائي، وتتوازي مع ضرورة أن يغير الموت سرديته الخاصة، ليدافع عن نفسه، ولكي لا يجد نفسه مبتلياً بأكثر مما ارتكب، وليرسم خطوطاً أبعد للفقد والخسارة، منتصراً زيفاً على تقليدية المحكي أو المعيش في رواية الثكالى الفلسطينيين في المخيمات.
حورية التي تعمل في فرقة للعروض “الفرجوية”، دورها المتمثل في “رجل جمل” ضمن المجموعة، لم تكن بعيدة في المسمى الوظيفي والدها الملقب بالجمل، لصبره وجلده في المعارك التي شارك فيها. نتائج هذا الغياب عن العائلة لشهور طويلة أفقده معنى كلمة عائلة. ليتسلل الموت كشخصية شفافة حينما يتركك مثله بلا توصيف، بلا هوية، بلا تاريخ، بلا كينونة.
تعيد ألمانيا تجميع الأشلاء الحية، لقاء يجمع بين الأب وحورية، هذا الفدائي الناجي من الموت مراراً. إذ خلال مسيرته الفدائية قدم له الموت صوراً مختلفة عنه، أقصد هنا الموت نفسه وليس الأب. الاختلاف يكمن في أن السلاح مثلاً ليس إلا خديعة للقصاص من الأعضاء البشرية، وفي ربط مباشر تتعدد السيناريوهات المرفقة والمكتوبة حول الحدث نفسه. في المحصلة نجد الموت يقدم نفسه كنتيجة، مثلما نرويه في ختام الحكايات الحزينة، وليس بصفته الفاعل.
تتسلل شخصية “زوج الخالة” إلى جوهر القصة، الغائب مند سنوات طويلة، تطرح تساؤلاً أين كان بعد المجزرة، وتحديداً قبل المجزرة نفسها. هنا يمكن القول: إن الموت لا يعود بصورة مألوفة إلى الفكرة التي تقدم الشتات الفلسطيني نفسه خارج حدود جغرافيا الوطن المحتل. وإنما يعود من حيث لا يتوقع أحد، من الموت نفسه يعود الميت إلى الحياة. الزوج الذي فقدت أخباره لسنوات طويلة كان معتقلاً في السجون السورية، ثم أن فكرة غيابه واعتباره ميتاً، دفعتها للزواج. يخرج الميت مجدداً ليقلب الطاولة على رأسها كمحرك حقيقي للأحداث. عودته الطبيعية من رحم الموت إلى قلب السرد تؤكد أن الأموات ليسوا من فارقوا الحياة بل من تشبثوا فيها إلى أقصاها فخدلهم تمسكهم.
تغير الأمكنة في هذا العمل الروائي، تجاوزٌ لفكرة موت الجسد نفسه، فالموت مشاع حينما يكون الند بشرياً، يتبعه حتى في هروبه منه، ولذلك لا بد من العودة إلى سبب موت السيدة الألمانية في بداية الرواية. يمكن أن نعطيها توصيفاً مهماً وهي سيدة من “سيدات الإعمار”. فقدت زوجها في خراب ألمانيا الكبير أثناء الحرب العالمية الثانية، وشاهدة على إعادة الحياة إليها بجهود النساء الألمانيات. وقصة حورية التي بدأت حياتها بمجزرة، ترسم خارطة جديدة لمصائر الموتى، يلتقي الأحياء فيها بالأحياء والموتى بالموتى. وباقتدار يحوّل الموت الضحايا حول العالم إلى إخوة، ويحول الإخوة إلى ضحايا.
اللغة أيضاً لها نصيبها من الموت. وهنا يتحول النص من مجرد قصة إلى محاورة لصور الموت في الذي يمكن الكتابة عنه. بشكل سلسل لتمهيد الفكرة يعطي والد حورية لها بعض الأوراق ودفتراً، طالباً منها فتحه بعد أن تسمع بخبر وفاته. خانت الطلب واقتحمت خلوة السر المؤجل. يتمثل السر في مخطوط مكتوب بلغة غريبة، عجز عن فك طلاسمها عباقرة التشفير. السؤال الذي يمكن طرحه هنا: أليس الموت هنا حليف اللغة أيضاً حين يتركها على شكل نص مجهول لا حياة فيه وأن موت المعرفة هذا ربما حياة بصورة معاكسة للغة ذاتها؛ لأنها تجعلها عصية على أن تكون مقروءة فتنال حظها من موت القراء وليس موتها؟ ولربما لتأكيد أن الأكثر موتاً للغة هو موت المترجم، حيث من المفترض منح المترجم عمراً مضاعفاً وخلوداً أبدياً، فمهمته ليست أقل من وظيفة الإله، حينما يعيد الحياة إلى جسد لغوي ميت.
حال موت اللغة التي يقتلها المترجم بموته، هو حال اللغة التي تموت على أفواه الضحايا فتموت حكايتهم معهم. وهذا العالم المرتبك، حتى وإن تم التحدث إليه عن الكوارث الإنسانية عبر اللغة، فإنه أصم. وإن معركة الحياة في هذا العالم ليس ما يجب قوله، بل ضرورة القول دائماً لكي لا تموت اللغة. نوع من التأكيد على استحقاق الضحايا فرصة الوقوف على مسرح الحياة الكبير لبوح قصتهم.

___________

* النص مشارَكَة في تظاهرة “تحولات الرواية الفلسطينية”، التي نظمها “بيت الرواية” بتونس في “اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني”.
** روائية فلسطينية، حائزة على جائزة “كتارا” للرواية العربية للعام 2018.

الرابط المختصر|| https://palfcul.org/?p=3220

Font Resize