13 April, 2025

دراسة لكتاب “خيانة المثقفين” لإدوارد سعيد

بقلم – نضال خليل

يعد كتاب “خيانة المثقفين” (The Intellectuals and the Power) لإدوارد سعيد دراسة نقدية عميقة تتناول دور المثقف في المجتمع ومسؤوليته تجاه القضايا الفكرية والسياسية ومدى خضوعه أو مقاومته للسلطة يتناول سعيد في هذا الكتاب القضايا الأخلاقية التي تواجه المثقف  لا سيما حين يجد نفسه أمام اختبار الانتماء إلى القيم الإنسانية مقابل الانصياع لمتطلبات السلطة  سواء كانت هذه السلطة سياسية  اقتصادية  أو حتى ثقافية إن هذه الدراسة تستند إلى تحليل منطقي متماسك يقوم على استكشاف المعطيات الفكرية التي يقدمها سعيد ومناقشتها من زوايا متعددة لتقديم رؤية نقدية متكاملة لهذا العمل.

إن ظهور كتاب “خيانة المثقفين” جاء في سياق عالمي متغير حيث بات المثقف أكثر تورطًا في شبكات السلطة سواء من خلال المؤسسات الأكاديمية أو الإعلامية أو السياسية ففي العقود التي سبقت نشر هذا العمل شهد العالم صعودًا متزايدًا للأنظمة النيوليبرالية وتغلغل القوى الاستعمارية الجديدة في تشكيل الخطاب الثقافي ما جعل العديد من المثقفين ينخرطون  في منظومات الهيمنة بدلًا من الوقوف في وجهها.

لقد استفاد سعيد من قراءاته النقدية في الفكر ما بعد الاستعماري ومن دراسته الدقيقة للبنية الثقافية الغربية لينتج خطابًا يتحدى التوجهات التقليدية التي تُحيل المثقف إلى مجرد أداة في يد القوى المسيطرة ويعد هذا الكتاب امتدادًا لجهوده السابقة في تفكيك الهيمنة الفكرية الغربية التي ناقشها في أعماله الأخرى مثل “الاستشراق” و”الثقافة والإمبريالية”.

يمتاز كتاب “خيانة المثقفين” ببنية فكرية صارمة حيث يقدم سعيد تحليله عبر سرد متتابع يتبع نهجًا تاريخيًا ونقديًا مترابطًا يعتمد أسلوبه على تفكيك الخطابات الثقافية المسيطرة مع تقديم أمثلة متعددة لتبيان الطرق التي يتم بها احتواء المثقف في دوائر السلطة.

يرى سعيد أن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي يحتفظ بمسافة نقدية بينه وبين السلطة ويكون قادرًا على طرح رؤى مستقلة غير خاضعة لمصالح القوى المسيطرة غير أن هذا المفهوم يصطدم بواقع معقد حيث نجد أن العديد من المثقفين قد تحولوا إلى أدوات تخدم أجندات معينة سواء من خلال دعمهم غير المباشر لسياسات الهيمنة أو تبريرهم لممارسات السلطة.

يستعين سعيد في تحليله بشواهد متعددة تثبت كيف أن العديد من المفكرين الذين تم تقديمهم كأيقونات ثقافية كانوا في الحقيقة خاضعين لمنظومات فكرية ذات توجهات استعمارية حيث يسهمون في إنتاج المعرفة التي تعزز الهيمنة بدلًا من مقاومتها وهنا يبرز التساؤل الفلسفي:

 هل يمكن للمثقف أن يكون موضوعيًا حقًا؟

أم أن كل معرفة تنتج ضمن سياق معين هي معرفة منحازة بالضرورة؟

يطرح سعيد في كتابه قضية محورية تتعلق بالسلطة الثقافية حيث يؤكد أن السلطة لا تمارس تأثيرها فقط عبر القوة المباشرة، بل عبر تشكيل الخطابات التي يتم من خلالها تحديد ما هو مقبول فكريًا وما هو غير ذلك.

يمكننا أن نرى هذا التأثير في المؤسسات الأكاديمية التي تمارس رقابة ضمنية على الفكر النقدي إذ يتم استبعاد الأصوات التي تتحدى السرديات السائدة بينما يُمنح المثقفون الذين يلتزمون بالخط العام للسلطة فضاءات أوسع للتعبير والنشر.

يبرز سعيد أن من بين أخطر أشكال خيانة المثقفين هو انخراطهم في تبرير الظلم سواء عبر خطاب سياسي أو عبر توظيف نظريات فكرية تدعم الأنظمة القمعية ومن الأمثلة التي يناقشها سعيد نجد تبرير الاحتلال والاستعمار من خلال استخدام مصطلحات مثل “التحديث” و”التنمية” وهي مصطلحات تبدو محايدة ظاهريًا، لكنها في الحقيقة أدوات أيديولوجية تعمل على تبييض صورة الهيمنة.

لا يتوقف سعيد عند نقد المثقف الخاضع للسلطة، بل يقدم تصورًا بديلًا لدور المثقف حيث يرى أنه ينبغي على المثقف أن يكون دائم الحضور في قضايا مجتمعه وأن يظل منحازًا للقيم الأخلاقية والإنسانية لا للمصالح الضيقة إن هذا الدور يتطلب جرأة في مواجهة البنى التقليدية ورفضًا لأنماط التفكير الجاهزة التي تعيد إنتاج علاقات القوة ذاتها.

يمكن النظر إلى كتاب “خيانة المثقفين” بوصفه نصًا تأسيسيًا في النقد الثقافي الحديث حيث إنه يقدم رؤية ثورية تتحدى القيم السائدة في العلاقة بين الفكر والسلطة ومع ذلك يمكن طرح بعض التساؤلات النقدية حول موقف سعيد نفسه كمثقف داخل مؤسسة أكاديمية غربية  وهل كان قادرًا فعلًا على تجاوز تلك البنية التي انتقدها؟

كما أن الكتاب رغم عمقه التحليلي يفتقر أحيانًا إلى الحلول العملية حيث يقدم رؤية مثالية لدور المثقف دون تقديم آليات واضحة لكيفية تحقيق هذا الدور في واقع يخضع لتعقيدات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبرى.

يظل كتاب “خيانة المثقفين” نصًا ضروريًا لفهم العلاقة الجدلية بين المثقف والسلطة  حيث يكشف كيف يتم احتواء الفكر وإعادة تشكيله وفقًا لمصالح القوى المسيطرة ومن خلال تحليله الدقيق يضع سعيد المثقف أمام مسؤولية تاريخية تتطلب موقفًا نقديًا مستمرًا  وإلا فإنه يقع في فخ الخيانة الفكرية التي تفرغ المعرفة من محتواها الأخلاقي.

إن أهمية هذا العمل لا تكمن فقط في نقده للممارسات الفكرية المهيمنة، بل أيضًا في دعوته لإعادة التفكير في دور المثقف في عالم تتزايد فيه أشكال السيطرة الثقافية مما يجعل هذا الكتاب وثيقة فكرية لا غنى عنها في الدراسات النقدية المعاصرة.

Font Resize