13 April, 2025

بين بحر تشاغوس وبحر غزة

بقلم نضال خليل

في البداية كان البحر، وكان الإنسان، كأنهما رسالتي وجودٍ ابتدئتهما قصيدةً قديمةً عن عبثية الوجود وحتمية المصير كان البحر يمتد بلا نهاية يحمل بين أمواجه أسرار الزمن وذكريات الشعوب وفي تلك الأعماق تسكن حكايات لم تُكتب بعد تروي معاناةً خالدةً وصمتًا مهيبًا هناك على شواطئ الذاكرة وقف رجل يرتدي بذلة رسمية باردة يحمل بين يديه ورقة مطوية ممهورة بختم دولة عظمى حاملةً فيها كلمةً واحدة: «ارحلوا».

ولكن إلى أين؟

لم يكن لهذا السؤال بُعدًا منطقيًا في زمنٍ فقدت فيه المعاني شيئًا من حضورها إذ أن الجزيرة التي احتضنت الأجداد والتي كانت تشهد على دفء الخطى وبصمات الأحلام لم تعد تعرفهم والساحل الذي رُويت عليه قصص الوالدين لم يعد يرحب بقدميهم هكذا بدأت مأساة تهجير أرخبيل تشاغوس دون دموع تُقطر على وجوه من فقدوا ذواتهم دون مقاومة تُدوّنها الصحف   فقد تبقى الألم في عيون أولئك الذين حملوا معاناتهم كظل لا يفارقهم في زوايا الوجود.

خمسون عامًا مضت وما زال ذلك الرجل الذي يوزّع الأقدار يجلس على مكتبه في غرفةٍ معتمة يتأمل الخرائط وكأنها لوحاتٍ لفنانٍ عبثي يصنع من الوجود معادلة باردة في واشنطن وفي لندن وفي تل أبيب يجتمع القادة حول موائد مستديرة يناقشون أمن القوم وكأنهم يرسمون حدود المعنى وفق حساباتٍ بحتة حساباتٍ تُمحيّ فيها الإنسانية وتترك وراءها مجرد نقاط تُجمع على ورق المذكرات وهكذا وقع الأمر في تشاغوس وفي كل زمانٍ تُعاد فيه صياغة القرارات كما يُعاد اليوم إنتاج نفس السيناريو في غزة بطرقٍ أكثر دهاءً وأوراقٍ أكثر رسميةً وكلماتٍ تُغلف البرد السياسي بعباراتٍ صماء.

حينما قرر البريطانيون في عقد الستينيات أن تتحول أرخبيل تشاغوس إلى قاعدةٍ عسكرية أمريكية كان القرار يُتخذ بلا نقاش بلا صوتٍ يُسمع من بين الأنقاض البشرية أُغلق الميناء وُضعت العائلات على متن السفن وأُرسلت إلى أرضٍ لم تكن لتعرفهم لم يكن هناك خيارٌ أو حتى وهم للاختيار إذ بُعثرت القرارات كأنها تهمس بها ريح القدر في أروقة مكاتب السلطة المراسلات بين جونسون في أمريكا ورجالات بريطانيا حملت بين طياتها حسابات استراتيجية وتقارير أمنية، كأنها أوامر مقدّرة من قوة لا ترحم هكذا كان تهجير تشاغوس دون صخبٍ أو ضجيج وكأن الزمن نفسه أصبح أعمى عن مأساة الإنسان.

أما غزة فهي قصة أخرى تتردد أصداؤها في زوايا التاريخ قصةٌ يتجسد فيها الألم في كل جدارٍ وكل شارع حينما ظهر ترامب على الشاشات متحدثًا عن خطته كان المشهد مألوفًا وكأنَ القدر يعيد تكرار نفسه رجل يتحدث عن الأمن والاستقرار وعن ضرورة إعادة ترتيب الخريطة لتتلاءم مع مصالح القوى التي لا تعرف الرحمة لكن الرسالة كانت ضمنية فقد كان الجميع يفهم أن غزة يجب أن تُفْرغ أن يُخفف عدد سكانها أن يُستبدل الوجود بظلٍّ خافتٍ كأن الأرض تُستبدل بمساحة أكثر “نظافة” تُسمح لها فقط بأن تكون رقماً في معادلةٍ من حسابات السياسة الدولية.

هنا يتجلى الفرق في التبريرات ففي تشاغوس كانت التقارير تُعدها لجنة الأدميرال جريثام وتُستخلص المذكرات بخط يد البريطاني غريتباتش لتتوج العملية كأنها نتيجة طبيعية لسلسلة اجتماعاتٍ بلا شفقة بينما في غزة لا تزال الورقة تُكتب والاقتراحات تُناقش خلف الأبواب المغلقة كأنها ترتيلٌ يُبطن صداه في عمق الظلام فما الفرق إذًا؟

 ربما الفرق الوحيد كان في ظهور الجرح أمام أنظار العالم فشعب تشاغوس لم يكن محور الأخبار اليومية بينما غزة تظل الجرح المفتوح الذي لا يُمكن كتمانه.

وفي كلتا الحالتين تكررت الدراما ذاتها إذ يُنتزع الشرعية عن الوجود البشري وتُقدم التبريرات الأمنية كحججٍ لا تقبل النقاش ثم يُنفذ القرار بصمتٍ قاتم وكأن من يُقتلعون من أراضيهم ليسوا سوى ظلال تُمحى عند أول ضوء للفجر وفي خضم هذه اللعبة العبثية يستفيد أولئك الذين يرسمون الخرائط يُعيدون توزيع السكان كما يُعاد ترتيب قطع الشطرنج دون أن يسألوا:

 ما الثمن الذي يُدفع من روحٍ وهوية؟

في هذا المشهد تتراقص سياسات الدول وتتماوج مصالح القوى لتصبح السياسة أداةً لإعادة ترتيب المعادلة الديموغرافية وسيلة لتغيير الوجود البشري وفق رغبات متحكمين لا يعرفون سوى الحسابات والقرارات الباردة إسرائيل تلك الدولة التي نشأت من فكرة التهجير تراقب المشهد بعين الخبير ففي نظرها لا يكون هناك مكانٌ كبيرٌ لوجود شعبٍ يُمكن أن يُعيد للعدالة صوتها كما لم يكن هناك مجالٌ في تشاغوس لبقاء الوجوه التي لا تُعدّ سوى أرقاماً في دفتر  ٍ من الحسابات.

تتداخل هنا أسئلة الوجود مع معاني اللامبالاة السياسية في رقصةٍ تحمل بين خطواتها فلسفة العبث وتعكس مأساة الهوية تسأل الروح في لحظات الصمت:

ما قيمة الوجود حين يصبح الإنسان مجرد رقمٍ يُوزع على أسطر تقارير أمنية؟

وما معنى الحياة حين تُفقد معانيها وسط قرارات تُتخذ خلف أبواب مغلقة دون أن يُسمح لأحدٍ بأن يستمع إلى صرخات القلب؟

تتجلى في تلك الأسئلة صورةً للواقع المعاصر واقعٌ تتداخل فيه مشاهد تشاغوس وغزة في نسيجٍ واحد نسيجٍ يروي قصة الشعوب التي فقدت بيوتها التي جُرحت أرواحها تحت وطأة قرارات تُكتب دون معرفة من يبكي خلفها هي قصة رجلٍ يجلس وحيدًا على شاطئٍ يتأمل في الأمواج التي تعود إلى البحر كأنها تحاول إعادة ترتيب الفوضى في حين تبقى الوجوه المرهقة شاهدةً على معاناة لم تُكتب في كتب التاريخ الرسمية.

وفي تلك اللحظات ترتفع الأصوات العربية في وسائل الإعلام والشاشات تُعلن رفضها القاطع لسياسات التهجير التي تُعيد نفسها عبر الزمان أصواتٌ تملأ الصحف والمجلات والمنتديات تحمل كلماتٍ من الثأر والكرامة كلمات تنادي بأن الأرض ليست ملكًا لمن يكتب عليها الأوامر بل هي سجلٌ حيٌّ لقصص الشعوب وأحلامهم التي لا تُمحى مهما طال الزمن.

وبينما يستمر الحوار السياسي في قاعات السلطة وتُعقد الاجتماعات خلف الأبواب المغلقة تنسج الكلمات سرداً طويلًا من الألم والأمل سرداً يتجاوز مجرد الأوراق والتقارير ليصبح سردًا وجوديًا يروي معاناة الشعوب وقصصهم الممزقة بين دفتي الماضي ومستقبلٍ غامض وفي كل مرة تُذكر كلمة “أمن” يبدو أن هناك وجهاً من وجوه الشعوب يتساءل:

 أي أمن يضمن بقاء الإنسانية؟

وما هو الثمن الذي يُدفع مقابل أن تُعاد رسم الخريطة وفق مصالح القوى الكبرى؟

إننا نعيش في عصرٍ يتداخل فيه العقل مع الوجدان حيث تصبح القرارات السياسية نبوءةً تُكتب في دفاتر الحسابات دون أن تُلمسها دموع وفي هذا العصر يقف الإنسان وحيدًا أمام البحر يتأمل في مدى قدرة الذكريات على مقاومة النسيان وفي عمق عينيه تتراقص أمواج الماضي والمستقبل أمواج تعيد تشكيل الوجود في رقصةٍ لا تعرف النهاية.

وفي قلب هذه السردية الطويلة من الحبر والوجدان تتشابك معاني الأمل مع صرخات الألم وتظهر قصص تشاغوس وغزة كمرآة تعكس وجه الإنسان المعذب الذي بالرغم من كل شيء     ما زال يحمل بذرة مقاومة لا تعرف الاستسلام تلك البذرة الصغيرة التي وإن بدت عاجزة عن مواجهة زحف القرارات تظل تنبض في قلب كل إنسان يرفض أن يُحرم من حقه  في الوجود.

 وفي كل صفحةٍ تُكتب وفي كل كلمةٍ تُنثر يتردد صدى صوتٍ يقول:

 «لن ننحني، لن ننسى»

 صدى ينبثق من أعماق الذاكرة من تلك اللحظات التي اختلط فيها الألم بالأمل ومن حكايات الشعوب التي رفضت أن تُصبح مجرد أرقام في معادلة سياسية بحتة وفي نهاية كل يوم حين يختلط الليل بالنهار يبقى البحر شاهدًا على كل ذلك يحتفظ بأسرار الشعوب ويهمس بأحرفٍ  من نور في وجه العتمة.

وهكذا تستمر الحياة في لعبتها العبثية حيث تُعاد كتابة التاريخ كصفحاتٍ في دفترٍ قديم لا يُمكن مسحه وتظل الأرض حرةً تُخبر قصتها رغم محاولات القوى أن تُفرّق بين وجوهها وسكانها فبينما تُدون الكلمات قصائد الألم والأمل تظل الأرض في صمتها الخالد تشهد على أن لكل روح حقًا في البقاء ولكل قصة قيمة تتجاوز حدود الحبر والورق.

في تلك اللحظات التي يسترجع فيها الإنسان معانيه وبينما تبقى الذاكرة حيةً في عمق الليل ينتفض القلب لينطق بصدقٍ أن الحياة مهما كانت مليئةً بالقرارات الباردة والآلام المكتومة ستظل دائمًا قصةً تُروى قصةُ مقاومةٍ وإصرارٍ على البقاء على الحرية وعلى كرامة لا تُقاس بأرقام أو معادلات.

وهكذا تنتهي رحلتنا ليس بخاتمة، بل ببداية جديدة تُفتح فيها آفاق الأمل والحرية وتظل الأرواح تنشد بألحانٍ خفية أن الإنسان سيظل دائمًا مهما حاولت القوى أن تُنسى مآسيه حاملًا في قلبه شعلة من النور لا تنطفئ.

Font Resize