نبيل السهلي
كان متعدد المواهب وواسع الإدراك والمثابرة، ورغم مرارة اللجوء والنكبة، استطاع الراحل جبرا ابراهيم جبرا أن يصنع مجداً لشعبه وهويته الوطنية ؛ من خلال نتاجاته الغزيرة في مجالات الأدب والفن التشكيلي والرسم .
ولد جبرا إبراهيم جبرا في عام 1920، في بيت لحم ؛ هو أديب روائي ومؤلف ورسام، وناقد تشكيلي، فلسطيني من السريان الأرثوذكس الأصل.
استقر في العراق بعد نكبة 1948 حيث عمل بالتدريس في جامعة بغداد؛ في عام 1952 حصل على زمالة مؤسسة روكفلر في العلوم الإنسانية لدراسة الأدب الإنكليزي في جامعة هارفارد.
نتاجات غزيرة
تعتبر نتاجات الراحل جبرا غزيرة ومتعددة مقارنة مع أقرانه؛ وقد أصدر جبرا سبعين من الروايات والكتب المؤلفة والمواد المترجمة، وقد ترجمت أعماله إلى اثنتي عشرة لغة.
كان جبرا أيضًا رسامًا، وكان رائدًا في حركة الحروفية التي سعت إلى دمج الفن الإسلامي التقليدي في الفن المعاصر من خلال الاستخدام الزخرفي للنص العربي. ولد في بيت أضنة، ودرس في القدس وبريطانيا وأمريكا ثم انتقل للعمل في جامعات العراق لتدريس الأدب الإنكليزي، وهناك حيث تعرف عن قرب على النخبة المثقفة وعقد علاقات متينة مع أهم الوجوه الأدبية مثل السياب والبياتي.
ويعتبر من أكثر الأدباء العرب إنتاجا وتنوعا إذ عالج الرواية والشعر والنقد وخاصة الترجمة كما خدم الأدب كإداري في مؤسسات النشر.
عرف في بعض الأوساط الفلسطينية بكنية “أبي سدير” التي استغلها في الكثير من مقالاته سواء بالإنكليزية أو بالعربية. توفي جبرا إبراهيم جبرا سنة 1994 ودفن في بغداد. في مدينة بيت لحم، التحق بالمدرسة الوطنية. بعد انتقال عائلته إلى القدس عام 1932، التحق بمدرسة الرشيدية وتخرج عام 1937 من الكلية العربية الحكومية.
حصل جبرا على منحة دراسية لدراسة اللغة الإنكليزية في الكلية الجامعية للجنوب الغربي في إكستر للعام الدراسي 1939-1940، ومكث في إنكلترا لمواصلة دراسته في جامعة كامبريدج، بسبب مخاطر العودة إلى فلسطين بالقارب خلال الحرب العالمية الثانية.
في كامبريدج، تعلم اللغة الإنكليزية وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1943 من كلية فيتزويليم، كامبريدج، حيث كان مراقبه هو ويليم ساذرلاند تاتشر. وفي عام 1943، عاد جبرا إلى القدس حيث بدأ بتدريس اللغة الإنكليزية في كلية الرشيدية كشرط لمنحة المجلس الثقافي البريطاني. كما كتب عددًا من المقالات في الصحف المحلية الصادرة باللغة العربية في القدس. وفي كانون الثاني/يناير 1948، هرب جبرا وعائلته من منزلهم في حي القطمون غربي القدس بعد وقت قصير من تفجير فندق سميرأميس وانتقلوا إلى بغداد.
سافر إلى عمان وبيروت ودمشق بحثًا عن عمل. في دمشق، توجه جبرا إلى السفارة العراقية، حيث منحه الملحق الثقافي عبد العزيز الدوري، الذي أصبح فيما بعد مؤرخًا عراقيًا بارزًا، تأشيرة للتدريس في كلية تدريب المعلمين لمدة عام. حصل جبرا على درجة الماجستير من كلية فيتزويليم، كامبريدج عام 1948. لم يتطلب برنامج الماجستير أي دورات دراسية أو إقامة في بريطانيا وفقًا لنظام كامبريدج، حيث يمكن لحاملي شهادة البكالوريوس الحصول على درجة الماجستير بعد خمس سنوات ودفع رسوم.
صراخ في ليل طويل
اعتنق جبرا الإسلام السني عام 1952 ليتزوج لمياء برقي العسكري. في العام نفسه، حصل على زمالة من مؤسسة روكفلر، تم ترتبيها بشكل شخصي من قبل جون مارشال، لدراسة الأدب الإنكليزي والنقد الأدبي في جامعة هارفارد.
أثناء دراسته في هارفارد بين خريف 1952 و 1954، درس على يد أرشيبلد ماكليش. في كامبريدج، ماساتشوستس، وترجم جبرا روايته الأولى “صراخ في ليل طويل” من الإنكليزية إلى العربية وبدأ في كتابة روايته الثانية، “صيادون في شارع ضيق” (1960).
بعد عودته إلى بغداد، عمل جبرا في العلاقات العامة لشركة نفط العراق ثم وزارة الثقافة والإعلام العراقية.
درس في بغداد في كليات مختلفة وأصبح أستاذا للغة الإنكليزية في جامعة بغداد. أصبح جبرا مواطنا عراقيا. كان من أوائل الفلسطينيين الذين كتبوا عن تجربتهم في المنفى. كان منزل جبرا الواقع في شارع الأميرات في منطقة المنصور في بغداد مكانًا للقاء المثقفين العراقيين.
كان الكثير من كتاباته يهتم بالحداثة والمجتمع العربي. قاده هذا الاهتمام إلى أن يصبح في الخمسينيات من القرن الماضي عضوًا مؤسسًا لمجموعة بغداد للفنون الحديثة، وهي حركة جماعية وفكرية للفنانين حاولت الجمع بين التراث الفني العراقي وأساليب الفن التجريدية الحديثة. على الرغم من أن مجموعة بغداد للفن الحديث كانت ظاهريًا حركة فنية، إلا أن أعضاءها ضموا شعراء ومؤرخين ومهندسين معماريين وإداريين.
كان جبرا ملتزمًا بشدة بمثل مؤسس المجموعة جواد سليم، واستلهم من الفولكلور والأدب العربيين ومن الإسلام. استمر انخراط جبرا في الوسط الفني مع كونه أحد الأعضاء المؤسسين لجماعة “البعد الواحد” التي أسسها الفنان البغدادي البارز شاكر حسن آل سعيد عام 1971؛ وبعد وفاته في عام 1994، انتقلت إحدى أقاربه وهي رقية إبراهيم، إلى العيش في منزله في بغداد. ولسوء الحظ، دمر المنزل عندما انفجرت سيارة مفخخة استهدفت السفارة المصرية المجاورة في عيد القيامة في عام 2010، مما أدى إلى تدمير جزء كبير من الشارع وقتل العشرات من المدنيين. وقد تم فقدان الآلاف من رسائل جبرا وأمتعته الشخصية في هذه الحادثة إلى جانب عدد من لوحاته.
التواصل الحضاري
استطاع مد جسور التواصل الحضاري بين الدول العربية ودول الغرب؛ حيث قدم جبرا إبراهيم جبرا للقارئ العربي من خلال الترجمة أبرز الكتاب الغربيين وعرف بالمدارس والمذاهب الأدبية الحديثة. حيث ترجم العديد من أعمال الأدب الإنكليزي إلى اللغة العربية، ولعل ترجماته لشكسبير من أهم الترجمات العربية للكاتب البريطاني الخالد، وكذلك ترجماته لعيون الأدب الغربي، مثل نقله لرواية «الصخب والعنف» التي نال عنها الكاتب الأمريكي وليم فوكنر جائزة نوبل للآداب.
ولا يقل أهمية عن ترجمة هذه الرواية ذلك التقديم الهام لها، ولولا هذا التقديم لوجد قراء العربية صعوبة كبيرة في فهمها. كما ترجم الفصول من 29 إلى 33 من كتاب السير جيمس فريزر “الغصن الذهبي” وبعض أعمال تي إس إليوت. تُرجمت أعمال جبرا إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة، بما في ذلك الإنكليزية والفرنسية والعبرية. في الشعر لم يكتب الكثير ولكن مع ظهور حركة الشعر النثري في العالم العربي خاض تجربته بحماس الشعراء الشبان.
في الرواية تميز مشروعه الروائي بالبحث عن أسلوب كتابة حداثي يتجاوز أجيال الكتابة الروائية السابقة مع نكهة عربية. عالج بالخصوص الشخصية الفلسطينية في الشتات من أهم أعماله الروائية “السفينة” و”البحث عن وليد مسعود” و”عالم بلا خرائط” بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف. في النقد يعتبر جبرا إبراهيم جبرا من أكثر النقاد حضورا ومتابعة في الساحة الثقافية العربية ولم يكن مقتصرا على الأدب فقط بل كتب عن السينما والفنون التشكيلية علما أنه مارس الرسم كهواية.
ويصعب الآن تحديد موقع لوحاته، لكن يمكن العثور على عدد قليل من الأعمال البارزة منها في مجموعات خاصة. ويمكن أن تقدم عمال جبرا إبراهيم جبرا الروائية صورة قوية الإيحاء للتعبير عن عمق مأساة شعبه، وإن على طريقته التي لا ترى مثلباً ولا نقيصة في تقديم رؤية تنطلق من حدقتي مثقف، مرهف وواع وقادر على فهم روح شعبه بحق. لكنه في الوقت ذاته قادر على فهم العالم المحيط به، وإدراك الحياة والتطورات؛ وبهذا سيبقى الراحل جبرا ابراهيم جبرا حاضراً وبقوة من خلال إعماله المتنوعة؛ التي أصبحت جزءا من الهوية الوطنية الراسخة للشعب الفلسطيني الذي لم ولن يهزم .
كاتب فلسطيني مقيم في هولندا
المصدر : القدس العربي
رابط مختصر: https://palfcul.org/?p=5041