إبراهيم عبد المجيد
لا شك في أن الرواية تتسيد الآن الإبداع الأدبي، لا يعني ذلك غياب الشعر مثلا، لكن فكرة التسيد صارت ملتصقة بالرواية في كل العالم. كما أن الشعر اختار له مكانا خاصا بعيدا عن فكرة الجماهيرية، منذ انتقل من الشفاهية والإلقاء في التجمعات البشرية، إلى قصيدة النثر، التي تحتاج متلقيا ينفرد بها على مهل في بيته، أو في أيّ مكان يقرأ فيه متأملا بعيدا عن التلقي الجماعي.
الأمر يختلف في المسرح مثلا أو السينما، فعدم شيوعهما في بلادنا بقدر شيوع الرواية يرجع إلى أسباب أخرى تحدثنا فيها من قبل، على رأسها أن الأمر ليس في يد الكاتب وحده، بل تتدخل فيه ظروف الإنتاج المسرحي أو السينمائي، فضلا عن الرقابة التي تزداد قيودها، وغياب الإعلام عن فن المسرح بالذات، فقد انتهى الزمن الذي كان فيه التلفزيون في مصر مثلا ينقل المسرحية المعروضة مرة كل أسبوع على شاشته، رغم أننا نقرأ على صفحات الميديا عن مسرحيات جميلة تعرضها مسارح مثل مسرح الطليعة أو غيره.
لكن المؤكد أن تسيد الرواية جاء بالسلب على القصة القصيرة، وهي فتنة الكتّاب الغائبة الآن. كلما تذكرت سنوات الستينيات وكيف كانت القصة القصيرة هي فتنتها، وكيف تحول الأمر باندفاع كبير للرواية منذ السبعينيات، أشعر بالحنين، لكنه صار أقرب إلى الوهم. كما راح البعض بتأثير الميديا ينحون إلى كتابة القصة القصيرة جدا، التي لا تزيد عن عشرة أسطر، حين تتأملها تجدها أقرب إلى الخبر منها إلى بنية فنية جديدة. ولم يبقَ لنا إلا القصة البيضاء، أي الخالية من الحديث، لكن كم قصة يمكن أن يكتبها الكاتب بيضاء خالية من الكلام في عالمنا العربي الظالم للكلام؟
ليس انحيازا للرواية أقول، إن الرواية العربية الآن في أجمل تجلياتها، فهذا يقوله النقاد قبل المبدعين، لقد أصبحتْ قاسما أعظم بين كل البلاد العربية. تداخلت في بعض البلدان الأجيال، أو الأعمار لكن من الطبيعي أن يكون الأكثر عددا الأجيال الأصغر سنا، يتصدرون المشهد في الجوائز والترجمة إلى لغات أخرى، والحمد لله أني قرأت لهم. ليس كل أعمالهم طبعا لكن على الأقل فزت بقراءة رواية أو اثنتين لكل منهم. إن التقلبات التي حدثت في كثير من بلادنا العربية انتجت أعمالا كبيرة عن ما لم تعرفه الرواية العربية من قبل إلا نادرا جدا، وأقصد به الهجرة والمنافي والحروب التي اشتعلت في بعض البلاد، وضياع أحلام الربيع العربي، وفي شكل الكتابة أيضا، وهذا هو ما أشير إليه. طبعا الرواية المصرية ليست محتاجة إلى حديث، فالأسماء ستملأ المقال من الكتاب المجيدين والكاتبات المجيدات من كل الأعمار. ستكون أكثر من أيّ بلد عربي ليس تميزا، لكن الأمر مرتبط بتعداد السكان . حتى لو كان فيه شيء من تداعيات الماضي الطبيعية، حين كان يُقال الرواية في مصر والشعر في العراق، فالزيادة الآن في عدد الكتاب المجيدين مرتبطة بعدد السكان، وبالطبع بإغراء الرواية. ربما في مصر تزداد أعداد الكتاب بشكل مربك للنقد والنقاد، لكن النقاد يستطيعون التمييز بينها.
لست في حاجة إلى القول إن فكرة أن بلدا ما يتصدر المشهد الروائي لم يعد لها مكان. الأمر نفسه في الشعر والقصة القصيرة. يختلف الأمر في فنون بصرية كالسينما والمسرح، فقد يتسيد المشهد بلد صغير إذا عرف الحرية أكبر. لكن من أين ستأتي الحرية لنراها على الشاشة، أو على خشبة المسرح، ونحن لا نراها في الحياة. السؤال الغائب عن النقد هو جوهر ما أريد أن أشير إليه. نحن نقرأ مقالات نقدية جميلة للنقاد عن الروايات.
يتفاوت حظ رواية عن أخرى، لكن تظل المقالات عن الروايات منفردة عند صدورها أمرا مهما وجميلا وواضحا. مما نقرأ الكثير جدا عن موضوع الرواية.. ومما نقرأ عبارات صارت مثل المقدسات عن كسر التابوهات والمغامرة في الممنوع وغير ذلك. الحقيقة أن هذا ليس جديدا فالرواية منذ ظهورها في العالم وفي مصر وغيرها من العالم العربي، هي مغامرة في المسكوت عنه. كونه اتسع فذلك يرجع لاتساع عدد الكتاب. في كل مقال عن رواية إشارة تبدو سريعة عن بناء الرواية ومفرداتها وكيف استخدمها الكاتب ببراعة. منذ سنوات انشغلتُ بسؤال لماذا لا نقرأ دراسة عن الشكل الفني في الرواية في العالم العربي. ومنذ سنوات لا أذكرها كنت في إحدى المرات عضوا في اللجنة التي تقيم مؤتمر الرواية في المجلس الأعلى للثقافة. اقترحت عليهم أن يكون البناء أو الشكل الفني للرواية، خاصة عند الكتاب الجدد هو الموضوع. صار ذلك هو موضوع المؤتمر لكن معظم الدراسات التي قدمها النقاد كانت عن روايات منفردة أو روايتين أو ثلاث روايات معا. ما زلت وسأظل انتظر هذه الدراسات عن البناء الفني في الرواية الجديدة في العالم العربي لسببين مهمين جدا. الأول هو أن تمييز الحركات الأدبية عن بعضها قام على الاختلاف في بناء وشكل العمل الفني عما قبله، ليس ذلك في الحركات الأدبية فقط لكن في الحركات الفنية أيضا شاملة الفن التشكيلي والمسرح والسينما. دراسات كثيرة تأتي في طريقي مثل المدينة في الرواية.. البيئة الساحلية في الرواية.. الحرب في الرواية.. المنفي في الرواية.. المرأة في الرواية، السجون في الرواية وغير ذلك كثير من الموضوعات المهمة، لكنها موضوعات شائعة في العالم كله.
لأكثر من ثلاثين سنة أسمع عبارات من نوع الكتابة الجديدة عن المهمشين، وابتسم سائلا نفسي، وهل غاب المهمشون عن الكتاب الأقدم في كل العالم العربي؟ ما الذي يميز الكتابة والفنون؟ البناء الفني. ومن ثم نعود إلى القضية التي اتحدث عنها. النقاد يجمعون مقالاتهم في كتب وهذا أمر جميل طبعا، لكنها في النهاية ليست عن البناء الفني الذي يميز الرواية العربية الآن، رغم أنك قد تجد ذلك في كل مقال منفرد عن كل رواية. ربما تجد في الجامعات دراسة من هذا النوع، لكنها للأسف لا تنتشر وتظل غائبة، وفي الأغلب تكون مرجعيتها ما وصلنا من العالم عن المذاهب الأدبية. بل تغلب الدراسات كما قلت عن الموضوع وهي الأكثر شيوعا. طبعا هناك دراسات مهمة عن البناء الفني عند كاتب ما، لكنه يظل كاتبا وحيدا. ما أشير إليه وأتمناه هو دراسات عن تميز الرواية العربية الآن في البناء الفني. قد تجد شيئا من ذلك عند نقاد كل بلد عن كتّاب بلده وحده، لكن ألا تجمع اللغة العربية بين البلاد العربية، ومن ثم يستحق الأمر دراسة عن الكتابة العربية الآن شاملة نماذج من كل البلاد. ومنها سيجد النقاد ملامح للكتابة العربية الجديدة، تفيد الكتاب القادمين، فيعرفون أين هم وكيف يخرجون عن السائد ليتميزوا. أعرف أن هذا سيحتاج جهدا كبيرا لكنه مهم للغاية. هكذا كانت الحركات الأدبية والفنية خروجا عن شكل الكتابة أو الفن لا موضوعه. لقد عرفنا الفارق بين الكلاسيكية والرومانتيكية من اختلاف البناء الفني ولغة الكتابة. الأمر نفسه في الاختلاف بين الواقعية والواقعية الجديدة، وبين كل ذلك والعجائبية وهكذا في كل الفنون. بجنون أطمح إلى أن تأتي مثل هذه الدراسات بمصطلح يميز الرواية العربية عن غيرها في العالم، ومن ثم يجد مكانه بين نقاد وكتاب العالم. كل تعريفات المذاهب الأدبية واتجاهاتها جاءتنا من دراسات عالمية، ولدينا الآن من الإنتاج الروائي ما يمكن أن يأتي بتعريف أو مصطلح جديد يضاف إلى ما نعرفه من العالم، أو ما يعرفه العالم، عن المذاهب الأدبية. أمل وجنون لكنه ممكن.
روائي مصري
المصدر: القدس العربي
رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=5000