حاورها: عبدالله الحيمر
آتية من العمق الفلسطيني؛ من مدينة نابلس التي تعد واحدة من أهم المدن الفلسطينية التي لعبت دوراً مهماً في حركة تاريخ فلسطين المعاصر، خلال الانتداب البريطاني 1920- 1948 يأتي صوت الكاتبة الفلسطينية عفاف خلف، المحمل بنبوءة الحرف ووعي الرؤية، في إصدارات عدة منها: «حرائق البلبل».. «على عتبات الوردة» نصوص إصدارات أوغاريت عام 2004 و«لغة الماء» – رواية إصدارات أوغاريت عام 2007 و«شغف الأيائل» ديوان إصدارات دار الحكمة جمهورية مصر العربية عام 2018.
لتطرح في روايتها الجديدة «وما تساقط» من إصدار دار الفينيق للنشر والتوزيع في الأردن 2021. الأسئلة الأكثر استبصارا حول الثورة والسلطة الفلسطينية. فكان معها هذا الحوار حول الرواية:
□ غالبا ما نكتب عن الأشياء المنتهية، أو الذاهبة للانتهاء، بخلاف روايتك «تشق عباب ثورة» ما زالت أيقونة ولم تفقد رمزيتها، كيف تحاكمين روائيا معضلة الثورة في الحاضر وسلطة تقود حلم ثورة في المستقبل؟
■ الكتابة غالباً ما تفترض النقد، ويكون جوهرها التغيير أو البحث عما حدث ويلقي ظلاله على الحاضر، ليس ثمة قطعٍ ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالسلسلة ثابتة بتراكماتها وجدلية حلقاتها، كلٌ يفضي إلى حلقةٍ جديدة جذورها تمتد إلى «تفاعلات» وكيمياء الماضي ومعادلاته، فليس ثمة فضاء، دون جذور تنبت من رحم التراب. نبعت أصالة الثورة الفلسطينية من خلافها مع عدو استعماري كولونيالي فرض معادلته على الأرض بالقوة حيناً، وبالتواطؤ المتعمد أحياناً، وربما لم تتفرد الثورة في نضالها ضد مستعمرٍ للأرض والشجر والبشر والحجر، لكن بالتأكيد تفردت في مواجهة مشروع «إحلالي» وليس احتلاليا فقط، وما زال طريق التحرر طويلاً ومضنياً، فطالما أن الثورة لم تحقق ما انطلقت لأجله، وما قامت لأجله، ستظل الأقلام تنزف والأفكار تثور والأيقونة ستظل قريبة التناول.
ثمة هذا الخلاف الجوهري ما بين الثورة والسلطة، ما بين بريق المناصب والامتيازات ورائحة البارود المختلط بالدم والعرق، ما بين ذئاب تلهث خلف قطيع الأغنام، لتنهش لحمه، وثائر يرى في الشعب غايته. وربما لأيقونية فلسطين في ذاكرتنا الجمعية العربية، وربما لأيقونية مقدساتها باتت الثورة رقماً صعباً، قلما جرؤ أحد على محاكمته أو البحث في ثوريته، ثورة لا يأتيها الباطل من أمامها ولا من خلفها ولا من بين أرجلها، هكذا أردناها وكان كل كسرٍ للنمط السائد، نمط التفكير السائد، يقارب خيانة، وقد علمتنا الثورات ـ كل الثورات ـ أنه لا نمو دون النقد، دون هذا الفكر الذي يحاكم ويبني جدلية تغيير الظروف ويسعى إلى صناعتها وإيجاد تربة لخصب وطرحٍ جديد.
□ في رأيك ماهو الشيء الذي تقدمه روايتك، بالزمن الفلسطيني المؤزم بين إكراهات الواقع وأمل قيام دولة فلسطينية؟
■ الرؤية، أكثر ما نفتقد إليه، فإن لم تستطع الرواية تقديم الحلول أو الهبوط بمظلة نجاة واستطاعت أن تحث القارئ على البحث عن سبل النجاة فقد صنعت رؤيتي. ليست مهمة الرواية البحث عن الحلول، لا تقديمها والروائي ليس بساحر أوز، فالكتابة يجب أن تكسر هذا الجليد الذي تكوم في داخلنا، فإن استطاع الروائي أن يُحدث خرقاً في النمط الفكري السائد إذن فله السبق. الكتابة التي تهادن وتتساوق مع ما هو مطروح، وليس ما هو مسكوت عنه لن يُكتب لها الحياة يوماً، بل ستولد مجهضة، وروايتي تقدم رؤية مختلفة عما حدث ويحدث حالياً، وسيستمر في الحدوث إن لم نكسر النمط ونغير قواعد الاشتباك، وأول تغيير في القواعد هو الوعي، فالوعي هو الرافعة الأولى والأخيرة للشعوب الباحثة عن مكانٍ لها تحت الشمس، لا بالاختباء والتمجيد والتصفيق، بل بالمواجهة والمحاكمة والبحث عن الوقائع من أجل إحلال قواعد بناء سليم.
ما نراه وما سنراه في واقعنا المأزوم والمهزوم ليس وليد اليوم ولا الأمس القريب، بل هو ولادة شرعية لنهجٍ تجذر بين ظهراني الثورة، وأصبح «لا وجهة نظر» وحسب، بل أضحى «مشروعاً» بمدافعين شرسين وللأسف صار المشروع السياسي مشروعا تجاريا، وصار الوطن يافطة على «أوكازيون» لمن يدفع أكثر. أما عن حلم الدولة – يُضحكني حلم الدولة ـ دولة متشظية بأوصال مقطّعة، تحفها المستوطنات وتمزقها الحواجز! وما بين كل مستوطنة ومستوطنة «بؤرة سكانية» للفلسطينيين. أتعرف ليس أسوأ من العمى إلا ذاك الذي تغاضى عن الرؤية، فإن قال «الورق» و»سلة الشعارات» شيئاً، فالأرض تُحدّث أخبارها، وواقع الأرض، أرضنا الفلسطيني وسكين الاحتلال تقطع أوصاله والمستوطنات تمزقه إرباً إرباً هو الواقع الأكيد أنه لا دولة ولا حلم سيتحقق ضمن المعطيات الحالية.
□ ما هو المحرض الفكري لكتابة الرواية عندك تحت الاحتلال؟
■ الغد، الشعب وباختصار الأمل، إننا نضع لبنة ما في بناء ذاك المستقبل القريب/ البعيد بإرهاصاته، إننا نُهيئ الأرض التي نضع فيها بذورنا، وسيتفتق الرحم عن خلقٍ جديد ليكتب واقعاً مختلفاً، هؤلاء هم من نكتب لهم، من يدفعوننا لخلق كل جديد، إنه يوما ما، وسيأتي، وستجد الكتابة رحماً يُفجر روحاً جديدة قادرة على إحداث التغيير الحقيقي.
□ هل تشبهين الطفل الفلسطيني حنظلة (المراقب الذي هو أكبر من الموت) لضياع الحماية الرمزية للثورة في داخلك كامرأة فلسطينية؟
■ ناجي العلي بأيقونته الثورية أكثر من رأي ومن يرى في زمننا الفلسطيني المليء بتناقضاته، وقد علمنا الديالكتيك، أن التناقض شرط أساسي في الصراع، شريطة أن نلتزم المعادلة السليمة، وتبني البصيرة السليمة في الصراع. ناجي الذي هو ضمير الثورة الأنقى، المنحاز إلى البسطاء والشعب بأصالته وتضحياته، ما زال رقيباً، وما زال هو وغسان كنفاني يقرعان جدران الخزان، والأهم جدران الوعي، فمثلما حاول غسان ربط الصراع الطبقي «والكل الفلسطيني في المنفى لاجئ» بالصراع مع العدو الصهيوني، كذلك فعل ناجي، وقد حذر كلاهما من ولوغ طبقة «الأثرياء والإقطاعيين» في دم «الثورة» الوليدة، لكننا لم نعِ ولم نفهم، وظل وعيهما محلقاً على الجميع، دون استثناء، وبذلك سبقانا في الرؤية. كامرأة فلسطينية، عزيزي لا يوجد لدي تلك الحساسية الجندرية، فربما علمني انخراطي السياسي أن الحياة بمجملها إنسان وموقف أنا الإنسان قبل أن أكون أنثى.
□ كيف وازنت روائيا بأكثر من سارد في روايتك، حيث نلاحظ أن لكل واحد وجهة نظر يروي الحدث من منظورها، مثل البدايات بالثورة الفلسطينية، أحداث أيلول/سبتمبر، الحرب اللبنانية الأهلية، تل الزعتر، اجتياح لبنان ومن ثم أوسلو ودخول السلطة الوطنية الفلسطينية وانتفاضة الأقصى عام 2000.
■ الشخصية المحورية هي التي فرضت معادلة التوازن، فعُدّي الذي هو بطل الرواية، أو لنقل الشخصية المركزية في الرواية، دارت كل الشخصيات والأحداث في فلكها، هو المحور الذي أدار الأحداث والشخوص، كلٌ يروي حكايته بتقاطع مع الشخصية المحورية، هكذا تم حفظ التوازن. الرواية لم تكن توثيقاً للحدث بقدر ما هي معايشة للأحداث وثورتنا الفلسطينية كانت مليئة بأحداثها، وكل حدثٍ يفضي إلى خسارةٍ لا حياتية حسب، بل سياسية أيضا، وأمام الخسارات السياسية كان يسقط الأفراد تتبعهم الجموع.
□ كيف عالجت روائيا الفساد الأخلاقي والسياسي والاقتصادي، في قلب قضية تحرر ثورة وطن نحو الاستقلال.
■ الإفساد، لا أعرف من قال كيف تفسد ثورة، وكان الجواب بإغراقها بالمال. المال هو رمالنا المتحركة التي ابتلعت وتبتلع كل شيء، بدءاً من القيم مروراً بالمبادئ وليس انتهاءً بالإنسان، والفساد حتماً لا يقف عند السقوط الأخلاقي فقط، بل سيتبعه سقوط سياسي وسقوط أمني وسقوط اقتصادي أيضاً. في الرواية تقاطعت الأسباب التي أدت إلى سقوط الأبطال، ممن تم إسقاطه إلى من هو ساقط أساساً، إلى من خابت آماله في الثورة وتعلم خلال الدرب الطويل أنه فهم معادلة الثورة بطريقة خاطئة فليس ثمة ثورة، بل أهداف شخصية ومصالح شخصية، وهناك من اختصر على نفسه وراءها تجارة رابحة، وهكذا..
□ قول المسرحي السوري سعدالله ونوس: «إننا محكومون بالأمل». بمعنى أنه يجب أن لا نفقد الأمل حتى بالأوضاع الأكثر بؤسا، أو حتى بالأوضاع التي لا يوجد فيها أمل، كيف تحولين أيقونة الثورة روائيا إلى أمل؟
■ أخبرتك بمعادلة الغد والشعب وبذرة جيلٍ كفر بكل الأبوات التي صنعتها ثورة لم تحقق أهدافها، هؤلاء هم من سيحملون معول التغيير من خلال الحفر والبحث في تجذيرٍ للوعي، لن أقول للأجيال القادمة آسفة، فقد غرنا بريق الثورة ولم نرَ، سأقول لهم أضأتً شمعة، حاكمونا جميعاً ولا ترحمون.
هشاشة الثورة.. هل هي قوة أم ضعف؟ هل تكتبين روايات افتراضية أولا في ذهنك، ثم تخلقين عالمك الروائي التخييلي على الورق؟
■ هشاشة الثورة قوة وضعف معاً، لأن الهشاشة في أصلها تحمل القدرة على التغيير، وتحمل في جذورها التكيف والبدء من جديد. وضعف لأنه من السهل حرفها واللعب عليها، ومن هنا يأتي دور الوعي المتجذر في حماية تلك «النبتة الضعيفة» وجعلها شجرة سامقة تطاول السماء بأحلامٍ عرضها السماء.
عالمي الروائي، من الطبيعي أن يكون عالما افتراضيا، ومن ثم أنزله على الورق، هو تماماً كهيكل عظمي أكسوه لحم الكلمات، وأبثه من روحي ليصير حياة قائمة بذاتها، وأدفع به إلى نهر الناس ليصير زمناً يعشش في رؤوسهم فتنبت على جوانبه الأفكار وأرى أطفالاً يلعبون ومدناً تؤسس وأحلاماً تسير في الطرقات وتتجسد الكلمات.
□ كيف ستتذكرين المستقبل لحلم ثورة في داخلك؟
■ سأتذكرها باقتباسٍ أخير «استيقظ لتحلم» هذا هو الحلم النابت في رحم الوعي لا يمكن إلا أن يؤسس ثورة حقيقية، فالثورة التي تنطلق دون وعي لما تكون لما ستصير إليه، وما تسعى إلى تحقيقه دائماً ستظل عمياء تتخبط في غيابات جب تنتظر سيارة القدر. أقول للجيل الجديد، لمن هم بعدنا لا تنتظروا، بل اصنعوا ما تريدونه بتخطيطٍ وبصيرة واستراتيجية تتجدد، كل يوم يتجدد الحلم، استيقظوا لتحلموا، ذاك هو الأمل.
المصدر|| القدس العربي
الرابط المختصر|| https://palfcul.org/?p=3089