17 April, 2025

“وينن” قصة للكاتب عواد مهنا

منذ ذلك اليوم أدركت بأنني خسرت حلماً جميلاً وكل ما جاء بعد ذلك من أيام حتى لحظة كتابة هذه الكلمات ما هو إلا حياة بهيمية تخلو من الكثير الذي لا أحب أن أعدده حتى لا أخسر المزيد.

“وينن”

عواد مهنا

انطلق الباص بنا من بلدة جرمانا القريبة من العاصمة دمشق في الصباح الباكر نحو مدينة منبج.

حالة من الصمت المطبق خيمت على جميع الركاب، وكأنَّ الطير على رؤوس القوم، قلق، خوف ووجوه شاحبة هو حال الجميع. بعد الخلاص من حاجز العباسيين وعدد آخر من الحواجز الأمنية التي كانت تمطرنا بأقذع الكلمات والأوصاف تارة، وتارة بأخذ مبالغ مالية ليُسمحَ للباص بمتابعة الرحلة نحو منبج.

كانت الشمس متوهجة والعرق يتصبب من الجباه المتعبة التي يُقرأ فيها قهر السنين السابقة، لكن أخيراً أُفرِجَ عن الباص من حاجز مدينة القطيفة، الكل تنهد ونطق الشهادة جراء الخلاص بسلام من هذا الحاجز العسكري الذي استغرق الوقوف عليه خمس ساعات.

أغلبية ركاب الباص كانوا يتحدثون اللغة الكردية، ولم ألاحظ وجود أحد من الركاب يتحدث العربية، لذلك بقيت جالساً في مقعدي متلفّعاً بحزن وأسى، وبدأت أتساءل لماذا أنا عازم على ترك أسرتي وحدها في خضم الفقر والانتهاكات؟!

وكأنني أدركت للتو مدى فداحة ما عزمت عليه، فطافت الدموع لتغسل وجهي الذي دفنته بين ذراعي، واجتاحني شوق عارم لأطفالي الذين لم يتجاوزوا السبع سنوات.

يا إلهي ماذا فعلت بنفسي وبعائلتي، وددت لو أن أحد الحواجز يعيدة الباص إلى جرمانا، لكن هيهات.

قلت في نفسي اصبر يا رجل، اصبر فأنت خرجت للخلاص من موت مؤكد، سيأتيك من طالبك الذي ضربته ذات يوم كفاً على وجهه، حين كان في مدرستك لا حيلة له آنذاك، لكن هو اليوم قائد لمجموعة من قتلة شارع نسرين يسيطر على حاجز مخيم اليرموك وينتقم منك.

بعد مضي ساعات طويلة غادرت فيه ذاكرتي إلى كل لحظة مضت من حياتي، وبعد أن هدأت نفسي قليلاً، كان قد فات الأوان للتراجع، فأنا وإن قاسيت الأمرين في رحلتي فسيكون من أجل زوجتي وأولادي، فإما أن أصل إلى هدفي وإما أن أموت خلال رحلتي ويكون ذلك قضاء الله، لذلك قررت أن أتناسى كل شيء حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.

الطريق الطويل والباص المتهالك جعل الزمن لا ينتهي، وكل ما كنت أفعله هو حرق السجائر، في حين كنت أشعر بأن شيئاً ما يحترق بداخلي ويسري في أوصالي.

أخيراً وصلنا إلى حاجز مدينة السلمية، حينها صعد عنصر أمن للباص وقال لنا يا أخوات الشرمو…. عليكم جميعا الترجل من الباص فوراً وترك كل أمتعتكم في مكانها.

وعند نزولنا من الباص استقبلنا عنصر آخر وقال لنا يا مناي…. كل واحد يضع بيده ألفاً وخمسمئة والهوية، وليقف كل من الرجال والنساء في طابورين منفصلين، امتثل الجميع للأوامر وبدأ أحدهم بجمع بطاقات الهوية التي أخذت إلى شاب ممتلئ الجسد وملتحٍ ذي رأس أصلع، وبدوره بدأ يقلب البطاقات وينادي على أصحابها ليأخذ النقود ويطرح بعض الأسئلة الشكلية، حيث كان ظاهراً بأنهم هنا فقط لجمع الأموال وليس القبض على المشتبه فيهم أبداً.

فور الانتهاء من التفتيش وجمع المال والتفنن بالشتائم انطلق الباص بنا نحو منبج، لكن بعد كيلومترات عديدة استوقفنا حاجز لفصيل إسلامي، وصعِد إلى الباص شاب ملتحٍ يرتدي اللباس الباكستاني، وبعد سماع خطبة إسلامية والتساؤل عمن يملك سجائر أو جوال، انطلق الباص أخيراً بلا توقف حتى الوصول إلى مركز مدينة منبج التي عُلِّقت في ساحتها الرئيسة جثامين ثلاثة شبان أعدموا بسبب سب الذات الإلهية.  

جلست في الشارع بعد أن انفض الجميع إلى بيوتهم وأدركت بأنني وقتها كنت الشخص الوحيد الغريب في المدينة المرعبة هذه، ساعة من الزمن وبزغت شمس اليوم الثاني وخلال ساعات قليلة كنت قد تجاوزت الحدود إلى تركيا التي سجنتني لا لشيء، إلا لأننّي فلسطيني في حين أُفرِج عن السوريين، وبعد تدخل السفارة الفلسطينية وشراء فيزا للسودان سمح لي بركوب الطائرة المتجهة إلى الخرطوم، وذلك بعد توقيعي على تعهّد بعدم العودة إلى تركيا.

بعد منتصف الليل انطلقت الطائرة من إسطنبول إلى الخرطوم التي استقبلتني وكأنني صلاح الدين الأيوبي، كنت سعيداً، ولكني منقطع عن العالم الخارجي يتملكني تعب وإرهاق وحلم بالوصول إلى هدفي وبمساعدة شخص سوداني استطعتُ التواصل مع صديق جاء وأقلّني من المطار إلى بيته.

طلبت من صديقي البحث عن مهرّب يوصلني إلى ليبيا عبر الصحراء، وكانت المفاجأة أن المهرب فلسطيني، وكان أحد طلابي في ثانوية اليرموك للبنين في مخيم اليرموك، التقيته واتّفقنا على كل شيء.

جاء بعد ذلك السائق وانطلق بي مع عدد آخر من الأشخاص إلى أطراف الصحراء، وألقى بنا إلى مجموعة أخرى من السوريين والفلسطينيين، وعاد لجلب مزيد من الراغبين في الهجرة، ثُمّ عاد بعد يومين حيث نفِد منا الماء والطعام.

وحتى لا تغرز عجلات السيارة البيك أب في الرمال انطلق السائق بسرعة فائقة، تارة يتجنب الكثبان وتارة يتسلقها وهكذا لمدة خمس ساعات متواصلة، شعر الجميع فيها بخدر كامل الجسد، وبعد استراحة ساعة زمنية تناولنا فيها التمر والماء الذي يعطيه لنا السائق ومعاونه؛ انطلقنا مرة أخرى بعد أن تبادل السائق ومعاونه الأدوار، لم يتوقفا عن التحشيش ولا لحظة علماً بأنهما كانا يصليان في أثناء الاستراحة.

وهكذا استمرّ هذا الوضع حتى الساعة العاشرة ليلاً ليتوقف، ثم نبدأ يوماً جديداً في الصباح الباكر إلى اليوم التالي.

حالتنا لا يمكن أن توصف، تذكرت الأهوال في مسلسل التغريبة الفلسطينية، وأدركت أننا في خضم تغريبة أعمق وأكبر وأشرس مما كنا نظن، إنه التيه يا أصدقائي الذي اتفق عليه النظام العربي والعدو الصهيوني.

وهكذا توالت خمسة أيام، كان المهربون خلالها يتزودون بالوَقود في أماكن محددة، فيها المئات من براميل البنزين والعجلات.

في صباح اليوم السادس وصلت سيارة لا تحمل لوحة أرقام، وعلمنا بأن المهربين الليبيين سيستلموننا ويتابعون الطريق، وبعد كثير من التهديد والوعيد من طرف السائق ومعاونه الليبيين اللذين كانا يحملان الكثير من المسدسات والبنادق والقنابل، بأنهم لا يريدون سماع صوت أي منا، وألا نطلب منهم أي شيء إلى أن يتوقفوا ويسمحوا لنا بالماء والتمر، لقد كانوا قوماً “أجلافاً” لا رحمة في قلوبهم، وخاصة أنّ معنا نساء وبناتٍ.

كنا نشم رائحة الحشيش الذي يدخنونه من زجاجة ويبدو عليهم الانتشاء، وكان هذا واضحاً من السرعات المذهلة التي يقودون بها السيارة، كنا نأخذ ثلاث استراحات كل أربع وعشرين ساعة، لم نكن نشعر بأجسادنا لكثرة الخضخضة التي نتعرض لها طَوال هذه الأيام، في أثناء الاستراحة لم نحتج إلى أكثر من ثوان حتى نغفو.

لنصحوَ على أصوات الشتائم والرفس بالأقدام، لم يكن من السهل الاصطدام معهم، والصبر هو خيارنا الوحيد.

في ظهيرة اليوم التاسع توقف السائق فجأة وطلب منا الترجل واللحاق به، فعلنا ذلك وسرنا حتى وصلنا إلى صخرة كبيرة وقال سنأخذ هنا استراحة، جلس الجميع وجلس هو معنا وبدأ يسأل كلاً منا من أي مدينة جاء، ثم أخذ بيدي وسرنا بضع خطوات وأشار بيده إلى موضع حجرين وقال لي هنا دفنت شابين فلسطينيين من مخيم اليرموك قد سقطا من سيارته في إحدى المرات، وقد كسرت أعناقهما إضافة إلى شاب ثالث مات بذات اليوم بسبب التهاب السحايا.

توجهت إلى القبور، وقد رُبطت حمالات حقيبة ظهر إلى الحجر، وكتب عليها كانوا يحلمون بالعودة إلى مخيم اليرموك، وكانت آخر كلماتهم سلموا لي على اليرموك، هذا ما أخبرني به الليبي، كان يقولها وليس به ندم، وأضاف أنه في كل مرة يحضر بها مجموعة مهاجرين يأخذ استراحة في هذا المكان.

نعم لقد ماتوا.. دون تحقيق حلم عائلاتهم وأطفالهم، ماتوا وبقي الحلم يحلق في الفضاء العربي.. الفضاء الذي ضاق حتى بأحلام الفلسطيني، ليس هذا فحسب، بل طاردوه وكانوا يُلقُون به في غياهب السجون كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

منذ ذلك اليوم أدركت بأنني خسرت حلماً جميلاً وكل ما جاء بعد ذلك من أيام حتى لحظة كتابة هذه الكلمات ما هو إلا حياة بهيمية تخلو من الكثير الذي لا أحب أن أعدده حتى لا أخسر المزيد.

مرات عديدة منذ أن تسلَّمنا هذا المهرب الليبي انقلبت السيارة، ومرات أخرى كانت تنفجر الدواليب، ولكن الله دائماً كان بنا لطيفاً.

وبانقضاء اليوم الحادي عشر وصلنا إلى أطراف مدينة طرابلس وهناك أيضاً تستلمتنا مجموعة مهربين أخرى، ونُقِلنا إلى بيت منعزل أُخِذ فيه منّا مزيدٌ من المال الذي جرى الاتفاق عليه، وأخذ كل شخص يتواصل مع مهرب من أجل الاتفاق معه على الذهاب إلى إيطاليا، ومن لم يستطع التواصل مع مهرب فسيبقى في هذا البيت الذي تستنكفُ حتى الخنازير أن تعيش فيه.

لقد فقدت الرغبة في الحياة وأصبحت أشعر أنه لا شوق عندي إلى شيء أو إلى أحد.. لقد تبلدت مشاعري الآن، كل شيء لدي سواء.

مضى نصف شهر وأكثر لم أغسل فيه وجهي، ولم أره ولا أريد أن أراه، كرهت كل شيء وعلمت ماذا يعني أن يكون لك وطن وجنسية وهوية، وعلمت كم خذلتنا الأنظمة العربية وقبلها الدكاكين الفلسطينية، وعلمت كم نحن رخيصون عند الأمتين العربية والإسلامية وبأن الجميع بلا استثناء قد تاجر بنا وبقضيتنا وحقوقنا.

لولا دعم الأصدقاء المادي والمعنوي لما استطعت أن أغادر دمشق ولما استطعت أن أغادر طرابلس الغرب بمركب متهالك يحمل بين جنباته أكثر مما يحتمل.

تحت جنح الظلام ذات صباح انطلق هذا القارب الذي يكابد صراع الأمواج، الكل منشغل بقراءة سورة ياسين والتهليل والتكبير، اليوم عرف الجميع الله، اليوم ستبدأ عودة مؤقتة للبعض إلى الله ولكن لا ضير في ذلك، أشبه بالكفر لا هو الكفر بحد ذاته؛ لأن الله قال: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ونحن فعلنا.

أصابني دوار لثلاثة أيام، لم أصحُ فيها على شيء، غثيان واسترجاع دائمان، وكلما تزايد تمايلُ القارب مع الأمواج كنت أصبح أقرب إلى حالة الأموات، ليس بي خوف من البحر بل بالعكس كنت أتمنى ذلك وخاصة كلما خطر أولادي على بالي، كنت أريد أن أعاقب نفسي على تركي لهم وهم في حالة لا توصف من الفاقة والعوز، كنت أريد أن أطمئن فيما إذا كانت الخيمة التي تُؤويهم مازالت صامدة في وجه الريح، وهل ستصمد في الشتاء القادم قريباً جداً، كنت أستخسر في نفسي كل شيء وأقول لماذا مثلي مازال على قيد الحياة، فقد صارعتها بكل ما أملك من قوة وقهرتني مرات ومرات.

ولأنني أتحدث اللغة الإنكليزية جيداً ساندني بعض الأشخاص وساعدوني لكي أتحدث مع حرس السواحل الإيطالي والناشطة نوال الصوفي، وأعلمهم بموقعنا وحالة الخطر التي نعيشها بعد تعطل المحرك في اليوم الثالث في البحر..

و بين شد وجذب بين نوال الصوفي وحرس السواحل الإيطاليين أخبرونا بأنهم سيتواصلون مع أقرب سفينة يمكنها القدوم لمساعدتنا، وخلال ست ساعات جاءت سفينة روسية ربطت القارب إلى جسم السفينة، لكنهم رفضوا إطعامنا أو السماحَ لنا بالصعود إلى السفينة حتى جاءت بارجة حربية إيطالية، وحملتنا وتَجوّلت بنا في البحر لثلاثة أيام بحثاً عن قوارب أخرى تحتاج إلى مساعدة، في هذه الأيام الثلاثة، وبعد أن استراحت أجسادنا بدأ التعب والإرهاق يظهر علينا جميعاً، وقررنا الإضراب عن الطعام حتى إيصالنا إلى البر الإيطالي، فاستجابوا بعد أن هدد بعضنا بإلقاء نفسه في البحر إن لم يفعلوا.

المهم وصلنا إلى الشاطئ الإيطالي وأُخِذنا إلى معسكر للجيش الإيطالي، وطلبوا منا أن نبصم ثم ننطلق إلى حيث نريد، لكن الجميع رفض ذلك، وبعد نقاشات طويلة استمرت خمسة أيام لم يجدوا طريقة إلا أن نصعق بالعصي الكهربائية، واقتادونا ونحن لا نملك أي سيطرة على أطرافنا، وبَصَّمونا وأطلقونا خارج المعسكر، هنا تفرقنا وذهب كل منا في طريق إلى أن التقى معظمنا في مدينة ميلانو الإيطالية، وتفرقنا مرة أخرى إلى دول عديدة ومختلفة.

ولأنني أملك بصمة لجوء في إيطاليا قررت الذهاب إلى ألمانيا التي منحتني اللجوء بعد سنتين من المحاكم، وجاءت أسرتي بعد أربع سنوات من الغياب، التمّ شملنا ولكن علمنا بأنها ليست الجنة الموعودة، وأن الديمقراطية والحرية ما هما إلا قشور وشبه كذبة، الإنسان هنا عبد لكثير من الأشياء وخاصة الدولة، لكن يوجد الكثير من الإيجابيات والأمان وكثير من الحسرة على أهالينا الذين ما زالوا في سوريا الذين يكابدون برد الشَمال السوري والفقر وتخلي المجتمع العربي والإسلامي والدولي عنهم.

Font Resize