24 March, 2025

“قبور في صور” قصة للكاتب نضال الخليل

هل تساءلت يوماً عن مصير المصوّر الذي يوثق الموت في المعتقلات، حين تطارده أشباح ضحاياه وتسكن عدسة كاميرته؟ وهل فكرت كيف يمكن لعدسة كاميرا أن تتحول إلى مقبرة جماعية للجثث التي لم تجد قبوراً تأويها؟ في “قبور في صور” للكاتب نضال الخليل، ضمن مشروع “حروف اللجوء”، نتابع رحلة مصور ومسوّق يحاولان منح الموتى قبوراً افتراضية على جدران الفيسبوك، لعل أهاليهم يتعرفون عليهم ويمنحونهم السلام الأخير.

قبور في صور

نضال الخليل

هل نسيت يداي معلقتان هناك؟

اسند رأسه للجدار:

  • متعب من جمل الجسد المثقل من سياطهم بلزوجة الدم أنه مخاض آخر أشتم رائحة الرحم

يمسح له صديقه الدم العالق على وجهه وسنده للجدار

  • نم يا صديقي
  • اشتم رائحة الرحم من هذا الجدار أحشر رأسي به ربما أولد من الجهة الأخرى
  • نم يا صديقي

همهمات السجناء تتصاعد بغضب.. يطلق السجان صفارته البارود ليتحولوا لقطع لحم متجمدة بوجه الخوف

يسحب السجان الجثة خارج السجن.. يهدأ المكان

الجثة تدخل حدقة الكاميرا لتتحول الى صورة بلا قبر

بعدما انتهى المصور من أدخال الجثة قبر العدسة سمع صريراً بالكاميرا وصار صراخ رمى الكاميرا من يده خائفاً تذكر الحكايات الخرافية عن عفريت الكاميرا ظن أن شيء سيخرج منها     ولكنها بقيت قطعة حديدة جامدة ملقاة على البلاط

اقترب لاستعادتها عن الأرض بعدما تأكد أن خرافة العفريت من نسج الخيال وما أن امسك الكاميرا أمسكت به أصابع خرجت من عدستها كالأخطبوط حاول الصراخ لكن الخوف ابتلع صوته و اخذت العدسة تجره بأصابع ملطخة بالدماء ليدخل جسد الكاميرا من عينها الزجاجية ينحشر بالطرق الحلزونية الضيقة ليسقط في مستنقع خمري اللون لزج من تخثر الدم على فقاعات الهواء و بقايا صور طافية على وجه المستنقع الخمري

تبدأ الصور بالصراخ بوجهه بسؤال واحد

  • اجسادنا انحشرت من فلاش كاميرتك وضاعت بلا قبر ولا شاهدة عليك ان تدخل محكمة الضوء لتقدم اعترافاتك

حاول الوقوف لكن لم يستطع جلس القرفصاء يخرج اليه قاضٍ يعتمر قبعة حمراء

  • اسمع يا غلام لتخرج من هنا عليك ان تعترف بأنك حشرت الجثامين من ضوء كاميرتك بلا قبر وعليك ان تصطحب هذه الوجوه وتنشرها على حبل الضوء ليتعرف عليها أهلها وكل عائلة ستحفر لصورتها قبر وكل قبر هو حلقة من السلسلة الحديدة التي سأربط بها عنقك وبعد آخر قبر ستتحرر

حاول الصراخ والهرب لكن مطرقة القاضي كانت أسرع من صوته لتضرب ضوء الكاميرا فيخرج منها مرمياً على البلاط محاذيةً للكاميرا

يستيقظ على صوت السجان

  • ماذا تفعل؟ قم الى بيتك انتهى دورك لليوم

خرج مسرعاً خارج المعتقل غير مصدق لما رآه قال في نفسه:

  • إنه كابوس

التقى بصديقته لتسأله:

  • من أين لك بهذا العقد ولما هو على شكل جنزير

ابتلعه صوت صديقته وتذكر جملة القاضي تحسس كاميرته مازالت بالحقيبة قال لها:

  • هو طوق نجاتي من جنون المشهد

اكتفت الفتاة بالنظر إليه بدهشة وأخذت ترتشف قهوتها دونما أي كلمة.

ترك لصديقته الخيار في أن تمضي معه لخمارة البحيري في باب توما او تعود للمنزل

دخل خمارة البحيري وحده لان الفتاة لم تجب على سؤاله اكتفت بالتلويح له وهو يمضي

جلس الى البار بجوار أحدهم وطلب كأس عرق كبير ليتجرعه دفعة واحدة وقال صارخاً:

  • إملاء ألف كأس الليلة سأتخلص من كل الموتى بهذه الكاميرا وسأعود لالتقاط صور الريحان والفرح … أملئ يا سيدي

بدأ النادل بالتهكم على صراخه:

  • كأس عرق واحد صارت الكاميرا مقبرة وفي الكأس العاشر ستصير الكاميرا مدينة

اقترب منه الرجل القابع جواره

  • أنا عمار أعمل بالتسويق وأنت؟
  • مصور ما يبحث في الخمارة عن اسمه
  • أهدأ ما بك يا رجل ((ضاحكاً)) انت فنان أهذا جنون الفن
  • انا حفار قبور بلا مقبرة أخيط الجثث في ألوان صوري واحولهم الى ذكرى.. أتعلم في هذه الكاميرا الكثير من الوجوه والأجساد شيء لديه معالم وآخر متأكل وانا احمل لعنتهم احمل مقبرة على اكتافي بلا قبور
  • كيف؟
  • أهو فضول.. أم استجواب؟
  • لا هذا ولا ذاك أحاول فهم ما تقول وإذا اردت لا تقل
  • خذ الكاميرا وسوق لها.. لعلك تجد لهذه القبور مقبرة لتجمعهم وتؤرخ أسماؤهم

وضع يده على عنقه محاولاً خلع القلادة ولكن الحلقات ضاقت على عنقه ركض صوب باب الخمارة وتاه كالتيس البري يحمل جنونه وقبوره وصراخه

أمسك عمار الكاميرا ضاحكاً

  • الجنون فن وهذه القطعة المعدنية مقصلة العقل

الكاميرا لها شاشة عرض بدأ عمار بتقليب الصور ليرى وجوه مشوهة ورؤوس مثقوبة أجساد متآكلة على الجوع والتعذيب

اوقفته صورة لفتاة لم تكمل العشرين تحمل وجهاً طفولياً وعينان واسعتان ولكن العنق مهترئا

بدأت عينا عمار بالبكاء ويداه بالارتجاف ولم يعد يستطع البحث أكثر

عاد ليكمل ما تبق من كأسه.. يضع نقوداً على البار

  • هذا الحساب عني وعن صديقي المصور

صار صديقه؟ هذا ما حدث به نفسه وهو خارج من المكان حاملاً الكاميرا

أقسم أن يعلق الصور المحشورة في قبر العدسة على الجدران والمآذن ووجوه الأطفال والأشجار، أوقفت كلمة الجدران تذكر قول صديقه

  • الفيس بوك دفتر المجانين

للحظة شعر بالخوف في أن يتحول الى صورة بهذه الكاميرا لكنه لم يتوقف عند هذه الفكرة الجبانة

بدأ ببناء جدار له على الفيس بوك وغرز كل المسامير اللازمة واخذ يعلق الصور بلا عناوين    او تعليقات ليس أكثر من نص:

  • ((هكذا نجا هؤلاء من قضبان المعتقلات ليصبحوا أحراراً من بوابة الكاميرا صاعدين قبورهم في صورة الى سماء لونه قرمزي))

صار الجدار جريدة تحمل التعليقات وتصير مكتب لدفن الموتى وإعلانات عزاء وبدأت الصور تتعارف على أهلها

إلا صورة واحدة كانت تطارد عمار في أحلامه كابوساً صورة لشاب بعمر العشرينات لم يكن وجهه واضحا تماماً بسبب هرص بزاوية الرأس اليسارية وفقأ عينه اليسار ايضاً

كان هذا الشاب يأتي أحلام عمار على هيئة محاور او سائق تكسي او إمام وفي كل مرة كان يسأل عمار عن عنوان قبره ليقرأ الفاتحة على روحه

وعمار كان يتابع كل يوم أي تعليق على هذه الصورة ولكنه لا يجد مما جعله يزيد التركيز على نشرها وربطها بمحركات البحث حتى جاءت ليلة لم يرى بها عمار كابوس الشاب ليستيقظ على تعليق:

  • لروحك الطيبة الرحمة يا ولدي احمد كم كنت تحرس افراحنا والآن نحرس نحن قبرك سلاما لروحك الطاهرة

شعر عمار أنه في خيمة عزاء الشاب احمد وانه من افراد عائلته بكى للحظة ولكنه صار يعرف عنواناً لقبره

لملم عمار اغراضه ليمضي الى عمله ليرى أحد ما بانتظاره على باب البيت

  • صباح الخير يا عمار بيك
  • من انت

لم يعد يرى عمار بسبب ان الرجل قلب سترته على راسه ليجره على الدرج قال عمار في نفسه

  • لحفار القبور ايضاً قبر
  • رابط مختصر https://palfcul.org/?p=15264 
Font Resize