بديعة زيدان:
“راودتني الدمعة كأمنية. أقسمتُ ألا أُسقطها، مقاومة لوعتي في رفض عمّي إكمال دراستي، وكأنه بموت الأب وبموت الأُم يتغيّر المصير، إن كان في ملابس تقليدية أو عصرية، وسواء في زمن النهضة العربية الولود على ساحل متصالح يُطلُّ على خليج متمرد، أو في نهضة مدسوسة وهماً بيننا، أو لعلها نهضة متوثبة، وكم أخشى أنها نهضة مرتجَلة بحمق دون اكتراث. سحقاً للنهوض الذي هو أصل المعارك في كل عصر!”.
بدأت الروائية الإماراتية ريم الكمالي، إصدارها الروائي الأحدث “يوميّات روز”، عن دار الآداب في بيروت، بتتبع حكاية “روزة”، شخصية الرواية المحورية، وذلك بالحديث عن زوجها التسعيني، بينما كانت هي “ترفل في ثوب الشباب والحيوية”.
“تحرّك زوجي الهامد قليلاً، لا تنهدُّ مُستسلمة، فقد طال العمر به، فهل دخل عصر البقاء ونسيه الفناء؟ أم غفل عنه القبر بعد اقتناصي والزواج بي؟.. لقد ابتعد عنه الاحتضار منذ فوزه بإرث الحصن من العشيرة، وإن تكوّم الخرابُ في شطر منه. هو الزمن لا غيره يترنّح ثملاً عن زوجي، بقي بقربه ليسانده، وإن صحا الزمن هذا من سكرته سيأخذه بلا شك في شهقة واحدة إلى عالم آخر، لكنه ظلّ منتشياً، وطاب له العيش في زوجي حتى أصبح هو والزمن سيّان، يخوضان الحروب سويّاً بين لعبة الانهزام ومزحة الانتصار، إلى أن أتى الحصن والحصن أتى به، بينما الزمن النشوان بقي كما هو قرب زوجي في القلعة، كالوهم العزيز الأنيس يقبع مخموراً بجانبه”.
وتدور أحداث الرواية في منتصف ستينيات القرن العشرين، زمن حركات الاستقلال وصعود الفكر القومي، وفكرة العروبة، وقبل وقبيل قيام دولة الاتحاد في الإمارات، فتلهو تلك الأحداث بالطالبة “روزة”، وتخوضان معركة الاستمرار والانكسار، فهذه القارئة المحترفة المتملكة لناصية الكتابة وملكتها، تُحرم من دراسة الأدب العربي في دمشق ما بعد المرحلة الثانوية، فتعود إلى منزل أسرة والدها في “الشندغة” بدبي، بعدما كانت تعيش على أطراف الشارقة، وتُفرغ كل غضبها في يوميّاتها السريّة، قبل أن تُلقي بدفتر مذكراتها هذا في مياه الخور، باعتبار أنه كان من المُعيب على المرأة، حينذاك، الكتابة عامة، والإبداعية منها على وجه الخصوص.
وتعود بنا الكمالي، على لسان “روزة”، إلى بداية حكايتها في العام 1969، حين أنهت المرحلة الدراسيّة، وكانت تعيش رفقة والدتها لدى أخوالها منذ رحيل والدها، لكن ومع وفاة الأم، يصطحبها الأعمام إلى ديارهم، ومن هنا تبدأ معاناتها وصولاً إلى “قلعة” الزوج الذي يبلغ من العمر أضعاف ما تبلغ، مروراً بتغييرات أُجبرت عليها، لجهة الشكل الخارجي، ولجهة حرمانها من التعليم، وذلك لقناعة لدى جدتها لوالدتها والأعمام بأن إكمال الدراسة ما بعد الثانوية يقلل فرص الزواج لبنات عائلات الأشراف!
“أخذني عمي معه، ولم يكن مهماً أين أعيش، ولوعتي المختلفة نشبت في حلقي بعد حرماني من الدراسة!.. خرجت بشعري القصير الأسود بمقص فرنسي أنيق، وقميصي الحريري الأصفر، وتنورة قصيرة ممتدة بسوادها إلى الساقين، وحذاء مرتفع، مغادرةً أرض البطن إلى أرض الظهر، من أرض الأخوال إلى أرض الأعمام مع عمي الشاب الوسيم الصامت (…) وضع حقائبي في الخلف، وجلس بجانبي، وما إن تحركت السيارة حتى أدرتُ رأسي نحو النافذة الزجاجيّة الخلفية، حيث خررت بعينيّ السور الحديدي القزم الراعي لحقائبي الحرّة (…) ارتجفت الأمتعة، فلمحت أصغر حقائبي، والتي وضعتُ فيها كتبي ودفاتري ويوميّاتي الوهميّة، تهتز معها الحقائب الشبيهة بحيوانات الرعي، حين تأخذ طريقها المرتعش نحو القصاص”.
تُطلب للزواج من قبل شقيق زوجة واحد من أعمامها، وترحّب عائلة الأعمام بذلك، وفي ليلة الزفاف المرتقب، يسقط العريس عن الفرس، ويلقى حتفه، فتتعاطى معها العائلة، وخاصة الجدّة، باعتبار أنها “نحس وشؤم”، لدرجة أن تطلب منها لبس ملابسها معكوسة (بالمقلوب)، لأسبوع، لعلها “تعكس النحس”.
وبعد أن كانت “روزة” أتلفت دفتر يوميّاتها قُبيل عرسها، وبعد أن حدث ما حدث، عادت لتمارس الكتابة، أو لعلها عادت للهروب من واقعها المأساوي، فخطت أول قصصها، في مرحلة ما بعد العودة، وكانت بعنوان “المجنون سعيد الكافر”.
وتطرقت الكمالي، في خضمّ حديثها عمّا قبل زفافها الأول، إلى طقوس الزفاف في إمارات ما قبل الاتحاد، في مزج ما بين هذه الطقوس والعودة بعيداً إلى زمن الجدّ، ورصد التحوّلات متمثلة هنا بالتغيّرات الحاصلة على “الخور”.
“تسبق ليلة الزفاف أيام من الاحتفالات تمتد منذ أول الصبح إلى نهاية العصر، يتم التحضير لها منذ يوم الجمعة بوصفه يوماً مباركاً، كما أن القمر يكون قد خرج هلالاً صغيراً وولوداً، والوليد أغنية من أغاني العادات التليدة (…) تأخذني قدماي نحو السطح بغريزة غامضة لرؤية رقصات عرسي الجماعية، وهي فرصة كي أرى طبيعة الخور بامتداده، خلف وارش خشبي مخروم وممتد. أجلس مقابلة الريح، أتأمل الزُرقة، ومحاكاة السفن المنتهية بأمر التيّارات المتحكمة في سيرها، أتذكر أن الخور كان في زمن جدّي الكبير ضحلاً، وبمدخل صعب لم تطوقه النوارس البيضاء بعد، ولم تكن تجول الطيور الرمادية لتخفق بين الضفّتين كما أرى”.
وكان “القرار الأخير التخلص من روزة. هذا ما اتفقت عليه جدتي مع عمّي وزوجته التي بدأت تتغير علاقتها بي منذ وفاة أخيها الذي اغتال عشقي برحيله. لقد أخذتْ تهمس لي مراراً بكثرة عرساني، وهم مرفوضون من عمّي وجدتي من دون أن يبوحوا لي بذلك، فلدي ثروة كبيرة توجب مباركتهم هم أولاً إن شعروا بأن الرجل مناسب لا أطماع لديه وأن نسبه يضيف للأسرة”، وهو ما كان مع الشيخ التسعيني، “أحد أمراء اللالئ”.
وتتنوع صنوف الكتابة في الرواية تبعاً لما تخطّه “روزة”، فنرى القصة التي قد تبدو طاغية، ونرى الخاطرة، وحتى ما يتقاطع مع المشاهد المسرحية، علاوة على أدب الرسائل، وهي جميعها تآلفت لتشكل “يوميّات روز” في نهاية المطاف.
كما لم تخلُ الرواية من جرأة في الطرح، وإن غلفتها الروائية بالحلم كمخرج من أي انتقاد قد يطالها، لاسيما حين خطّت “روزة” ما وصفته الكمالي بالدستور، في مرحلة الإعلان عن اقتراب تأسيس اتحاد الإمارات العربية السبع، وبحيث يشتمل على حالة من المساواة ما بين الرجل والمرأة حتى في الإرث، فيما لم تغفل الحديث عن تحوّلات مجتمعية وثقافية مدللة على ذلك بـ”الخمرة الوطنية” كصناعة محلية اندثرت، وهو ذلك الخمر المصنوع من التمر والتفّاح.
وتبقى الإشارة إلى أن الرواية تطرح موضوع اضطهاد المرأة على أكثر من صعيد، منها الفكري المتمثل بالثقافة والكتابة، والعاطفي الوجداني، والمجتمعي، وغيرها، وهو ما يجد القارئ تعبيراته حاضرة على امتداد صفحات الرواية.
“في أسبوع مؤسف، عبّرت عن مشاعري في دفتر كامل، عن العمّ الذي يريد ثروة لي لم أمسسها بقدر معرفتي بها، عبّرت عنّي لأنّني خُلقت أنثى ملتبسة في عصر ينهض بالتباس، ولأنني أتيت في عصر المسافات المنسيّة لأبدو مجرّدة من القرار، ويُقذف بي! فهل أكفُّ عن كلّ ما قررت كي أتغلب على طوفاني الدائري، فينالني الخنوع؟ أم أنضمُّ إلى صفوف تمّ العبث بها في يوم التاء العظيم، تاء الأنوثة؟ فحيناً أنا اللؤلؤة، وحيناً بنت الأصول او الغالية، وكلّ الأسماء المدللة في ثقافتي، مقابل ألّا أكتب أو أدرس، بل أقبع في صندوق البيت بجانب مندوسي الثقيل.. وها أنا أفعل ذلك، وأنظر إلى مساميره النحاسيّة، بوصفي مفتاحاً ذهبيّاً ينمو بمهرٍ ثمين”.
رابط مختصر||https://palfcul.org/?p=4855