24 March, 2025

“وميض في الظلام” قصة للكاتب فايز أبو عيد

كيف لفتاةٍ صغيرة كرند، حملت في صدرها ربواً قاتلاً وفي ذاكرتها رائحة البارود، وفقدت والدها في ظلمات الاعتقال، أن تحوّل ألمها إلى لوحات تزيّن جدران مدينة تركية بعيدة عن مخيم اليرموك الذي ولدت فيه؟

هذا الوميض في الظلام، كما وصفه الكاتب فايز أبو عيد في قصته ضمن المشروع المشترك بين مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية وبيت فلسطين للثقافة، يروي قصة طفلة تحدت المرض والحرب والنزوح، لتحول مأساتها إلى إبداع يشهد على صمود اللاجئين الفلسطينيين.

وميض في الظلام

فايز أبو عيد

في غمرة الفجر الأول، انبثقت روح جديدة إلى الحياة، كزهرة برية تتفتح في حضن الطبيعة. كانت رند، طفلة بعينين كبحر الزمرد وشعر كخيوط الذهب، وبشرة تحاكي نقاء الثلج.

       لكن الفرحة لم تكتمل، إذ سرعان ما خيّم ظل قاتم على مشهد الميلاد، حين بدأت الصغيرة تصارع أنفاسَها الأولى، وهكذا، بدلاً من أن تحتضنها أمها بفرح غامر، وجدت نفسَها تحملها بقلق إلى المشفى، حيث أُعلنت ولادة رند الثانية – ولادتها مع الربو الذي سيرافقها طَوال حياتها.

في عام 2004، فتحت رند عينيها على عالم حافلٍ بالتحديات والأحلام، نشأت في كنف عائلة متواضعة، يكدح فيها الأب ليل نهار، بينما تجمع الأم بخيوط من عزم بين عملها ودراستها وتربية أطفالها، كان مخيم اليرموك عالمها الصغير، تتنقل بين أزقته كفراشة صغيرة، تقرأ على جدرانه كلمات الثورة وتستمع لأهازيج جدتها الفلسطينية التي ما زالت تحمل مفتاح بيتها في فلسطين كأنه جزء من روحها.

لكن الحياة، كما هي عادتها، لم تترك الصغيرة تنعم بطفولتها لوقت طويل، ففي لحظة، اشتعلت نيران الثورة، وتحول بيتهم الواقع في قلب ساحة فلسطين إلى شاهد على القصف والاشتباكات والقنص وهكذا بدأت رحلة النزوح الجديدة والمعاناة، مصحوبة برائحة البارود التي ما زالت عالقة في ذاكرة رند حتى اليوم.

تتذكر رند بوضوح ذلك اليوم المشؤوم، حين سيطر الجيش الحر على المخيم. الصمت القاتل الذي ساد المكان، ثم ذلك الصوت المرعب لدبابات جيش النظام البائد وهي تقتحم ساحة شارع فلسطين، لحظات من الرعب والفوضى، حيث التقطت الأم طفليها وهُرعت بهم إلى أسفل البناء، مخبئة إياهم في خزانة وسط دخان البارود الكثيف، كانت رند متيقنة أنها لن تنجو، لكن القدر شاء أن تخرج هي وعائلتها من هذه المحنة أحياء.

بعد هذه الحادثة، قررت العائلة النزوح إلى بيت الجد، لكن مجزرة عبد القادر الحسيني يوم 16/12/2012 أجبرتهم على النزوح الجماعي. كان مشهداً مؤلماً، آلاف الناس يغادرون مخيم اليرموك حاملين ما خف وزنه وغلا ثمنه، تاركين وراءهم ذكريات العمر وروائح الطفولة، رائحة الدم الممزوجة برائحة البارود في الجامع ظلت عالقة في ذاكرة رند، تذكرها دائماً بوطن مفقود وطفولة مسروقة.

انتقلت العائلة إلى جديدة عرطوز بريف دمشق، آمله في بدايةً جديدة، لكن القدر كان له رأي آخر، في ليلة مظلمة، دق باب البيت بعنف، وظهرت قوات النظام الفار لاعتقال والد رند دون سبب واضح، كانت تلك اللحظات من أقسى ما مرت به رند في حياتها، صرخاتها وتوسلاتها لم تجدِ نفعاً أمام قسوة عناصر الأمن.. وهكذا اختفى الأب، تاركاً وراءه فراغاً لا يمكن ملؤه وأسئلة بلا إجابات.

في خضم هذه الظروف القاسية، اتخذت الأم قراراً صعباً بالسفر إلى تركيا بحثاً عن الأمان والحياة الكريمة، وهناك، بدأت رند فصلاً جديداً من حياتها، تعلمت اللغة التركية، واكتشفت شغفها بالرسوم المتحركة اليابانية، عملت بجد لتطوير موهبتها في رسم الشخصيات، باهرةً كل من رأى رسوماتها.

لكن الحياة، مرة أخرى، كان لها كلمة ورأي أخر، في سن الرابعة عشرة، أصيبت رند بنوبة ربو حادة في أثناء رحلة عائلية، كانت تلك اللحظات عصيبة، حيث صارعت من أجل كل نفس وهي في قلب الغابات بعيداً عن أي مركز طبي أو مشفى، بفضل سرعة بديهة والدتها ومساعدة مواطن تركي، تمكنت رند من الوصول إلى المستشفى في الوقت المناسب، لكن الضرر كان قد وقع، مما أدى إلى تدهور حالتها الصحية وفرض عليها حجراً صحياً لمدة عام كامل.

خلال فترة الحجر، مرت رند بلحظات قاسية من الاكتئاب والعزلة، لكنها، وبروح المقاومة التي ورثتها عن أجدادها، قررت استغلال هذا الوقت لتطوير مهاراتها في الرسم وتحسين لغتها الإنجليزية، وعندما تحسنت صحتها، انضمت إلى مركز الشباب في إسكندرون، حيث اكتشف مديره موهبتها الفذة.

كانت فرصة رسم الجدارية في المركز نقطة تحول في حياة رند، لفتت أنظار المسؤولين وحصلت على تكريم من مدير بلدية إسكندرون. شاركت في مؤتمر عن دور اليافعين في المجتمع، وأصبحت جزءًا من فريق فنانين لرسم جدارية في قلب المدينة.

وهكذا، وقفت رند أمام جداريتها، فخورة بإنجازها، تواجه نظرات الدهشة من المارة الذين لم يصدقوا أنها لاجئة فلسطينية. كانت تقول لهم بكل ثقة: “نعم، أنا لاجئة، لكنني إنسانة هربت من جحيم الحرب، فقدت والدي، وأرغب في العيش بسلام.”

هذه هي قصة رند، الفتاة التي ولدت في مخيم فلسطين، ووجدت نفسها لاجئة في تركيا، قصة عن الألم والأمل، عن الخسارة والإصرار، وعن قوة الإبداع في وجه المحن، إنها ليست مجرد قصة عن اللجوء، بل هي قصة عن إنسانية تتحدى كل الصعاب، وترسم بألوان الأمل على جدران المستقبل.

https://palfcul.org/?p=15252     رابط مختصر 

Font Resize