في رحلة موجعة عبر الزمن والذاكرة، يروي “الكاتب وائل الزهراوي” قصة “مواسم التيه” حكاية شتاتٍ فلسطيني لا ينتهي، مليئة بالألم والجمال، حيث تتحول الدموع إلى وحي، والحسرة إلى قوة، تدور أحداثها بين حيفا التي تسكن الروح، ومخيم اليرموك الذي صار هوةً للطهر الممزق، تتشابك الأحلام مع الكوابيس في سردية مؤثرة عن الخسارة، الحنين، والعودة المستحيلة.
مواسم التيه
وائل الزهراوي
احتمالات متعبة تقتاتُ مَواسِمَ الشَّتاتِ، وتراتيل أجراس الرَّحيل الأخير، والأفق الظامئ لعتمة آتيه. وهاجس أسير يومئ لي أن الأصفاد لم تعد تنتظرنا، لقد استحالت إلى أنامل تمسح وجه الفجر الضرير.. كان أبي هش الدموع..
يتكئ على حلم نازف، يرتشف ظلال النهاية المنهكة بأحلامه الموشاة بوطن يبحث عن درب ليهاجر.
وذات حزن أخير، حطت حمامات الأزقةِ المنسيةِ على كتفيه، خطفته ورحلت به، غاب كما يغيب الرثاء تحت أكداس الزمن. لم تعد عروق يديه تُخبئني حين أرتجف خوفاً من فقده الآتي.
وبدا لي أن شعوري بالوحدة بعده أشدُّ من شعوري بالحزن الذي بات صديقاً عتيقاً يتكئ على عكازِه المكسورة، ويردد تراتيلَه ويعود صدى تمتماته أنهاراً تندفع في ذاكرة حيفا، حيفا قديسة الأبد البعيد.
في ذاك المساء حين أيقنتُ أنه لن يعود، رأيتُ في الدموع وحياً يردد سؤالي الكليل له:
أبتي: أسنعود يوماً؟ وتناثرت حقول الخزامى على شفتيه، وتداعت قناعاتٌ أخرى أمامه، تلمس حبله السُّري الذي مازال يزودُه بعشق لم يهرَمْ رغم عمر بأكمله، ثم التفت إلي ليقول: بنيتي!
أترين حرائق السحاب كيف تمر تحت عيني، إن السعير الذي يُصرّ أن يأخذني معه سيمهلني ثوانيَ لتعديني أنك أنتِ من ستعود يوماً، عديني أن تلبسي حيفا طوق الياسمين الذي صنعتُه خلال سبعين عاماً من سبعين حلماً، ويقين واحد بأني أينما كنت سأدفن في ثناياه وحدها، حيفا، لن تموت وبهذا فأنا لن أموت.
ومن حينئذ شِختُ أنا بغتة، وكبرت في داخلي حقولٌ عطشى لمساءات تمطر أرصفةً وحقائب تنِزُّ عطراً معتقاً خبأه أبي في أقبية حيفا ولم يهتد إليه الدخلاء.
قرأت مرةً أن وادي اليرموك يتحرك باتجاه الشرق نصف مليم سنوياً، ليس غريباً أن يهربَ من دنس الغرباء ويتشبثَ بالشمس، مخيم اليرموك، يجب أن يُكتب هكذا دون ألقاب.
يقولون إن معنى اسم اليرموك متأتٍ من اللغة الرومانية، حيث يفهمونها أنها “الهُوَّةُ المقدسة” يالَ صدق القدر، إنه حقاً هوةُ طهرٍ تلفِظ كل قبح في هذا العالم.
حين راحت الحرب تجتاح تجاعيد الوجوه.
أخذت كل الثواني تهرب من بعضها، تباعدت مِساحات الزمن، الدم يفسد مفهوم الوقت، تمضي أحقاب بلمحة، وتستمر لمحة لعصور طويلة. الصرخات التي تتوالى حين تغادر الطائرات سماءنا كانت توقظ رقدة الأزل، وتنثر أرواح المجهولين على حواف أطواق الزوال.. نموت لأننا بعضُ الحياة، فلسطينُ باتت لا تطيق النذور، فالموت يباغتُ كلَّ سراب يعدو نحوه من يحلمون بالنجاة.. النجاة من الحياة لا من الموت.
بعد يوم أرمات جاء يومُ أغواث..
وراحت الأرض تتآمرُ علينا مع السماء، وكشف الموت عن كل وجوهه المخبئة تحت دثار عتيق، وتبدت الحرب بكل زينتها كبغِيٍّ لا تخشى وليدها، وأخذ المخيم يرتجف من الغضب لا من الخوف، وأمطرتنا السماءُ ناراً، وراحت الجثث تتوالد، والرصاص يهوى صدورنا، والأشلاء تسخر من خوفنا، واستبدلت الحدائق مقابرَ، وملاعب الأطفال مزقاً من القطن لتستر عورة الجراح.
وأخذت تتشكل في الكون نكبة أخرى، وقلق الشرود يندب زنابقَ لم تنمُ بعد، ونحن والحنين رهان القلوب التي سكتت وهي تمسك بأصابع أطفالها أسرى اليتم الآتي
أنا يا سنونوة اسمي عُلا، ولدت في معابد الأنين، وهذي فلسطين مرةً أخرى تتهدل عنها طيوف الخيال، وتتبدى الحقيقة وهي تدبُّ على عصى من رماد تبتسم في وجوهنا، تبكي قليلاً ثم تنادي اتبعوني..
رأيتُ أبي مسروراً يمشي وهو لا يرى سوى فوح عبير أشجار الزيزفون بين أرجاء المخيم، رحماك يا الله، لقد كان حريَّاً به أن يرحل قبل أن يرى كل هذا الظلام.
وعند الظهيرة استبد غروب نهض من رماد الأنين، وراح يستمع لهمسات تتوالى، لنرحل لنرحل، ولُزوجة الحشرجات راحت تعانق خوفَ اليأس ومدن السعال، رأيت كيف هاجرت فلسطين مرةً أخرى من ذاتها، وارتياب الحيرة في أَتون المجهول جعل كل شيء فيَّ يستحيلُ لفمٍ، وكلّي يصرخ معي:
لا ترحلوا.. لا تغيبوا بين أحطاب الركام، أنظر في الوجوه الباكية والعيون المغمضة، لا أحد يريد أن يغيب لكنَّ الدرب بدا مغرياً حدَّ الخوف من الغد وتراءى لي طيف أبي ينادي:
الآن يا بنيتي يجبُ أن تعودي مرتين، ولا تُغفلي عهدي، لا بد يا بنيتي أن تعودي مرتين، ثم تلاشى… وبقيت وحدي دوني ألملمُ بقايا الإنصاتِ الملهوف جراء تتابع خيوط خطواتهم، سيول من الأرواح المهشمة تغادر إلى حيث لا مكان يذهبون إليه.
وجاء يوم عماس:
ورحت أعاند خطواتي، وحُداءُ أمي حين كنتُ طفلةً يشدني نحوها، وصوتُ أخي وهو يدعو أن يغيرَ الله دوران مجراتٍ من الخيبة، خرجتُ ببعضي وتركت ذاتي هناك، وحتى اليوم لم أدر من الذي غادر من هناك أنا أم هم؟! تركتني أمي خلفها خائفةً أحتمي بها حتى هذا اليوم وحتى هذي الرعشة.
وفي طريق النكبة وعلى حافة الطريق، أخذت أرقب من بين بيادر الدموع طفلةً سكن حسن الكون بأكمله بين ملامحها، وتجلت كل براءة الطيوف بين أناملها.
كانت تعدو بيننا وهي تضحك وتمسحُ عينيها، وعلى كتفيها جلس الياسمين يظفر جدائل النارنج، وتوسد التاريخ لغاتٍ مبهمةً وهو يغازل الحكايات، وأخذت الطفلة تنظر نحوي، خطوتُ خلفَها وتركت الجموع وما إن لمست يدها حتى استحالت الدنيا لبساتين من أزهار، وأخذ العطر ينساب جداولَ من بين أصابعها، التفتت نحوي وابتسمت فغمرتني كلُّ لذائذ الدنيا.
ثم اقتربتْ وحضنتني، فشعرت أن عمري باتَ آلافَ الأعوام وأني عشت ملايين الأيام، كانت رائحتُها كطيب جناتٍ لم تولد بعد، وأريجُها كعبير سماءات لم تمطر بعد، زال حزن الكون عن صدري، وهي تنظر في عيني.
ثم تعالت ضحكاتُها حتى صمت كل شيء، وعلى حين حزن غابت بغتةً من بين يدي.
صحوتُ وأنا أتلمس تضاريس الخذلان، وأقصوصة ورق بين يدي كتب عليها:
سأنتظرك يا عُلا لا تحزني، إني أحبك، أنا دمشق.
وأخذت القشعريرة تحتل مدن يباس أعزل، والموت يضحك مني، لم يعد بعد هذا يعبأ ما أعيش، لقد ودعتني دمشقُ وغابت في داخلي حيث لا يمكن أن أهرب منها ولا تهرب مني أبداً.
حين حلقت الطائرة باتجاه مصر، كانت النافذةُ هي المكانَ الأشد رعباً بالنسبة إليّ، أتراني سأتجرأ أن أطالع أزقة دمشق وأنا أودعها وحيدةً تحت غيوم تمطر أسماء من رحلوا. لابد أنني أحلم وسأصحو يوماً على وقع خطوات أبي ونظرات عينيه التي تحمل كل طمأنينة هذا الكون.
في مصر تتابعت وجوه تجارِ البشر تحت ستائر الدناءة، ليس هناك أرذل ممن يتاجرون بالنجاة، يتعامَون عن الوجع وينصتون فقط لصوت المال القبيح.
وتحت هديل التيه جاء اليوم الموعود، يجب أن يقودَنا ذاك الذي نسي أنه من البشر ونحن نتخفى خلفه لننجوَ واقتربنا من شاطئ مهجور، وحملني القهر ورماني بين أشباح مهزومين مثلي وركبنا قارباً سيرمينا في حضن سفينةٍ صدئة.
وفيما نحن بين حلم وموت ندق أطراف الحياة والدم هو الذي يفتحُ الأبواب وعلى حين طعنة سقط طفلي مني في البحر، شعرتُ حينها أن البحرَ بأكمله غرق في رئتي وأن الملحَ بدا نعيماً وأنا أرى ولدي يصارعُ الفناء وأنَّ كل أحزان الدنيا باتت سرواً لا يعادلُه سرور وأنا أنتشلُه من بين يدي الموت المتربص بنا.
حين يهرب الخلق من الموت يرمون كل بشريتهم خلفهم، يطؤون طفلاً ليموت يقيناً ليكملوا هم خطوة أخرى نحو احتمال.
مضت أيامٌ كأنها قرون حتى وصلتُ أخيراً إلى المنفى الجديد، وصحراء الانتظار، أكل الدهر مني تسعة أعشار روحي المطفأة
وفي مساء بارد كنت فيه مملوءة برائحة أمي ولفتاتها، رُحتُ أتساءل ما الذي يَشغلها فتغيب عني؟ لم تعد ترد على رسائلي، أمي أين أنا إن كنت أنت لست هناك؟! ثم وصلتني رسالة وهي تلهث بالملح تُهَدْهِدُ خُطوط الحزنِ الذَّابِل في زرقة الضجر وتغير تاريخ الوجود وأنا أقرأ حروفه:
أمك مصابة بمرض عضال يا علا، فقدت كل اللغات بغتةً، ورحت أعبر بين كثافة الندوب الهاربة في ازدحام المسافات وظلال الملامح العتيقة في انحلال العروق. وتَغَرُّب الجهات الداوية تشرب أنخاب الأسى.
أمي أنا… إنها حيفا مرةً أخرى ولم يكتف القهر عند هذا وحده.. وجاءت لطمة الطين المحموم، لم يعد أحد يعرف أين أمي.. غابت كما الشمس التي لن تشرق مرةً أخرى.
أماه يا صرخة تعيد طور الكون الأول، إني أبحث عنك في ثقوب الأسئلة وجدران الشوق الوئيد والفقد يجيء قطرة هذي ترحل بطهر الكُحْلِ وعَطش الشَّفاه، أماه فقدك نكبة ثالثه دون رجوع. خجل القهر قليلاً من خيالات أمي التي لم أعرف لها رمساً أزورها فيه، وبات حلماً أن يضمها التراب جسداً يبدو باهظ الرهان، ولعل القهر اكفى.
لكني كنتُ كعصفور ينقر ظله، وفيما قوافل الجؤار مازالت تحط رحالها في داخلي، جاءتني طيور حمرٌ تحمل رسائل من آخر شهقات أخي الصغير، لقد ذهب ووجد أمي ولن يعوداً معاً أبداً… مات أخي.
رحت أتعفّر ببكارة عتمة الهذي الباهت وسعال القصائد المكدسة اللهاث على قارعة العزاء، رحماك يا كوابيس الريبة أكاد أستحيل إلى حزن يمشي على يديه غير آبه بكل أنّات المغادرين.
شهقت كغريق، أدركت أقاصيه أنه سيموت وراحت تنسل تاركةً إياه وأنفاسه الأخيرة حين ارتداني خبر موتي أخي الأكبر.
عدوت نحو أبي المبتسم دائماً، أبتاه أغثني، فجاء مسرعاً وجلس عند رأسي وأخذ بيدي، همس لي كلهم بخير لا تقلقي، المهم أن تبقي أنت هناك.
وفي صباح باهت، وحزني مشتاق إلى عناق لهفة، عرفت أني والموت لن نفترق، لقد ضمت اليونان أرض التاريخ القديم أختي تحت تربتها…
وتنداح في داخلي مقولة ترتديها أمي حين كانت ترتلها:
كل الورود تذبل دون رعاية، إلا أنك وردة الصحراء يا بنتي… يرويك إيمانك ويسقيك صبرك أبداً. هذه الحروف مازالت ترسمني أينما حللت.. أتلوها كلما نظرت حولي ورأيت الجميع يملكون بعضاً ممن ولدوا معهم.
لم يعد يخيفني الموت، ولم تعد تسري في أعماقي رعدة الفقد، إن من أحبهم منحوني القدرة على هزيمة الحزن.
وأنا اليوم أعبر فصول الرصاص وأمتشق عطر أبي فتصحو شيخوخة الفجاءة فوق كبوة الضوء بين فراغات تتوق إليها طفولتي المتعبة بالأمنيات وسأصنع وطناً جديداً وأسكن مع أمي وإخوتي.. لقد وهبوني ضوءاً لا ينطفئ أبداً..
وسأحمل لأبي مزيداً من الشاي الأحمر ونصف علبة تبغ كانت منسية تحت وسائد الرذاذ، أو ربما سأبتاع له نافذة جديدة أو شرفة تطل على بساتين حيفا، لأقف بقربه وهو يزيل الستائر عن الحياة ويضحك وهو يحضن حيفا من جديد وأهمس له لا بد أنّي سأعود يوماً كما وعدتك يا أبتي لا بد أنّي سأعود.