نضال برقان
تذهب الشاعرة د. نبيلة الخطيب إلى أن «الشاعر واحد من الناس، يشاركهم همومهم وقضاياهم، ويستطيع أن يكون لسان حالهم الذي يترجم بالشعر كوامن نفوسهم»، مؤكدة «أن دور الأديب الشاعر أهم على المدى الطويل، فالوعي الاجتماعي ينضج على نار هادئة، والقصيدة الناجحة تترك أثرها في الناس وتفعل فعلها في الوجدان لتشكّل الوعي…».
الخطيب نفسها حاصلة على شهادة الدكتوراة في الفلسفة، الأدب العربي الحديث. وهي عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية ورئيسة المكتب الإقليمي للرابطة في عمان 2011-2014م. وعضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. وعضو رابطة الكتاب الأردنيين. وعضو في لجان تحكيم عربية للمسابقات الشعرية، والبحوث العلمية.
لها من الدواوين الشعرية: صبا الباذان، ومض الخاطر ، صلاة النار، عقد الروح، هي القدس، من أين أبدأ..؟!.
ولها أيضا كتاب في النقد بعنوان: «شعر محمد القيسي في ضوء جماليات التلقي: قراءة في أفق التوقع» (بدعم من وزارة الثقافة الأردنية)، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2019م. وكتاب في النقد بعنوان: «جماليات الخطاب وجدلية المكان: مراوحة بين التأثير والتأثر، قصة يوسف نموذجاً»، صدر عن دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2023م. لها بحوث متعددة قُدّمت في مؤتمرات عربية ودولية، منشورة في كتب صادرة عن المؤتمرات، وبعضها منشور في مجلات علمية محكمة. حصلت على العديد من الجوائز العربية، وحظيت أشعارها بدراسات أكاديمية موسعة في الجامعات الأردنية وجامعات عربية ودولية، فأجريت حول تجربتها رسائل ماجستير ودكتوراة وأبحاث أكاديمية.
في الحوار الآتي نضيء على جوانب من تجربته الإبداعية:
* يظل للبدايات ألقها في الوجدان، ويظل لها حنين خاص ما انفك يهدهد القلب بين حين وآخر. ترى ماذا عن بداياتك؟
– البدايات هي الإشراقة الأولى في فضاءات الشاعر حيث تبزغ الموهبة، وتدغدغ قطرات الندى أهداب الحلم في عيون الحياة المنفتحة على الدهشة الأولى. إنها لحظة ميلاد واعدة حمل بها القلب الصغير حملًا خفيفًا، ثم تفتقت عنها أسئلة الوجود ليظل المبدع عمرَه كله يبحث عن إجاباتها. بدايات المبدع هي الطفولة التي لا تغادره، حتى وإن غادرها؛ لأنها تقبع في تلافيف الذاكرة، توقظ الوجدان كلما هاجمته الغفلة في شعاب الحياة الملوّنة، فيجرفه الحنين إلى فضاء أبيض، إلى مرآة مستوية، لا مقعّرة ولا محدبة، ليتلمّس من خلالها ملامحه الإنسانية الصافية بأبعادها الحقيقية قبل أن تعبث بها خطوط الزمن، فتتجدد ذاته في ذاته. فالعودة إلى البدايات رحلة إلى أزمنة وأمكنة أثيرة دونما حاجة إلى تأشيرة ولا تذكرة سفر، إلى حيث لا يمكن الوصول إلا عبر الذكرى.
* لطالما ارتبط الأدب عمومًا، والشعر بخاصة، بمهمات كبيرة، أو جليلة، أو سامية، ترى في ظل ما تواجهه مجتمعاتنا العربية من تحديات جمة في الراهن، هل ثمة مهمة ما تنتظرين تحقيقها من خلال قصيدتك؟
– الشاعر يخاطب الناس من خلال قصيدته، فلا بد للخطاب من أن يلامس حاجات الناس وهمومهم والقضايا التي تشغل تفكيرهم وتتعلق بأحوالهم على جميع الأصعدة؛ النفسية والاجتماعية والسياسية …، مثل حقوق الإنسان وانفعالاته وتطلعاته وأحلامه وآماله وآلامه، بين النزوع إلى الحرية والشعور بالأمن والأمان والاستقرار والاستقلال، ورفض العبودية بكل أشكالها وألوانها، وكراهية الفاقة والسعي إلى الاكتفاء، والحاجة إلى الدفء العاطفي بعيدًا عن التجريح والتجافي والتحاقد والتحاسد… وكذلك الأسئلة التي تتعلق بالوجود والمصير؛ مثل الحياة والموت، السعادة والشقاء، الخير والشر، العدل والظلم، المساواة والطبقية، الحق والباطل، والقيم الإنسانية والأخلاق…
والشاعر واحد من الناس، يشاركهم همومهم وقضاياهم، ويستطيع بإحساسه المرهف، وبما وهبه الله، سبحانه، من قدرة على التعبير، ما يحتم عليه أن يكون لسان حالهم الذي يترجم بالشعر كوامن نفوسهم، فتوقظ كلماته الحنين إلى الماضي بأطيافه، وتعبّر عن الحاضر بأبعاده، وتستشرف المستقبل بتطلعاته.. فإنّ للأديب دورًا في البناء والإصلاح والتغيير، لا يقل عن الفيلسوف والسياسي والمصلح الاجتماعي، بل أزعم أن دور الأديب الشاعر أهم على المدى الطويل، فالوعي الاجتماعي ينضج على نار هادئة، والقصيدة الناجحة تترك أثرها في الناس وتفعل فعلها في الوجدان لتشكّل الوعي… كل هذا وأكثر من المهام الكبيرة، تسعى قصيدتي إلى تحقيقها ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، لعلها تظل حاضرة في الناس حتى بعد غيابي.
* تتعدد أشكال القصيدة العربية الحديثة (العمودية، والتفعيلة، والنثر، وربما ثمة غيرها الآن)، ولكل شكل من هذه الأشكال مريدوه، فأين تقفين من هذه الأشكال؟ ولماذا؟
– كانت كتاباتي الأولى تأخذ شكل القصيدة العمودية، لأنني كنت في سنوات الدراسة الابتدائية والإعدادية، التي واكبت بزوغ موهبتي الشعرية، أتلقى من خلال المناهج الدراسية هذا الشكل من الشعر، فتأثرت به ونسجت على منواله. وعندما قرأت شيئًا من شعر التفعيلة راقني أيضًا، ووجدت شعري يتدفق وينطلق متأثرًا بما تستقيه نفسي من ألوان الموسيقى الشعرية، التي كنت أشعر أنها تُعزف على أوتار روحي فأطرب لها. وهكذا أخذت قصيدتي تتردد بين الشكلين؛ العمودي والتفعيلة، ولم أشعر أن المسافة بينهما بعيدة أو أن أحد الشكلين تنصّل من الآخر، لاشتراكهما بطرف من إيقاع الوزن، وبشيء من القافية في قصيدة التفعيلة، وإن لم يكن الوزن والقافية بمستوى رتابتهما في القصيدة العمودية، ما أشعرني أنني ما زلت أدور في فلك الشعر، ومنحني الراحة في حرية الانطلاق في الشكلين معًا، ليس لأنني لا أرغب في التجديد في شكل الشعر، ولكن لأن هذين الشكلين وافقا هوى النفس ولامسا شيئًا عميقًا في وجداني. أما قصيدة النثر فوقفت عليها متأملة في أثناء قراءتي لها، فوجدت بعضها نصوصًا جميلة وربما عميقة، ولكنني لم أشعر بصداها يتردد في وجداني ليحفزني على كتابتها. هذه مثل حالي مع أنواع الأدب الأخرى كالرواية والقصة، أقرأها وأعجب بالكثير منها، لكنني لم أحاولها، فتلقّي الأدب بأنواعه يختلف عن إنتاجه، لأن المنتِج للأدب يعبر عن مكنونات نفسه بلغة الموهبة الإبداعية التي وُهبت له فبات يتقنها ويرتاح إليها، ولكنه لا يلغي جماليات ما ينتجه الآخرون، بل قد يستمتع به ويقف حياله متذوقًا أو ناقدًا أو محللًا. لذلك بقي هذا اللون من الإبداع النثري الذي سُمّي بقصيدة النثر لا يلامس منطقة الشعر في نفسي، وإن لم يخرج عن دائرة الإبداع في اعتبارها.
* لطالما ارتبط اسمك بالأدب الإسلامي، ترى إلى أي مدى استطاعت قصيدتك أن تحلق من جانب، وتتطور من جانب آخر، من خلال علاقتها بالرؤية/ أو الفكر الإسلامي؟
– لطالما قلت إن الفكرة الراقية تحتاج إلى أدب راقٍ للتعبير عنها، وإن الرؤية العميقة لا تُترجم بالكلام السطحي. والقيم الإسلامية أصيلة في ذاتها، وخالدة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. فهي تخاطب الإنسان في كل زمان ومكان، لذلك ينبغي أن تتطوّر أساليب التعبير عنها ليصل معناها إلى الناس جميعًا في كل العصور مهما اختلفت متطلبات الحياة فيها، ومهما تعددت ثقافات الناس وأساليب حياتهم وأنماط التعبير لديهم.
يصدر عن فكري ورؤيتي، وأنا أومن بالقيم الإنسانية التي نشأت على احترمها؛ الحق والعدل والحياة الكريمة… وهذه قيم إسلامية لا أفتعل التعبير عنها، فهي من أسس بُنيتي الثقافية. لذلك أعبر عنها بعاطفة صادقة، وفي الوقت نفسه أحاول تطوير أساليبي في التعبير لتناسب لغتي مفاهيم العصر، وكذلك أحاول انتقاء الكلمة التي تناسب سموّ الفكرة، في حدود قدرتي البشرية على التعبير، وكثيرًا ما أعتمد على الصورة الفنية المستقاة من روح العصر أو الطبيعة الماثلة للإنسان أينما وأنّى وُجد.
* ماذا عن النقد في العالم العربي؟ هل ترينه مواكبًا للحركة الشعرية؟ وهل ترينه قد تناول تجربتك بشيء من الإنصاف؟
– النقد بشكل عام بخير في عالمنا العربي. وشأنه شأن ألوان الإبداع المختلفة، يحلّق أحيانًا ويتراجع في أحيان أخرى، أقصد من حيث الكم والجودة على حدٍّ سواء. هناك جهود جادة تنتج نقدًا إبداعيًا يصدر عن عين بصيرة ونظرة ثاقبة، وبالمقابل هناك مقالات نقدية تُكتب للاستهلاك الصحفي تغلب عليها السطحية في كثير من الأحيان.
كثيرًا ما يدور الكلام في الأوساط الأدبية عن الموضوعية مقابل التحيّز في مجال النقد، سواء في التعامل مع النص الإبداعي، أو من خلال التركيز على كتّاب معيّنين. ومع أن الموضوعية مطلوبة في النقد، إلا أنني أرى أن التحيّز ينبغي أن يكون للنص الراقي بغض النظر عن اسم المبدع أو كمّ إبداعه. فنحن نعلم أن قصيدة يتيمة خلّدت ذِكر ابن زريق البغدادي، وما زالت تؤثر فينا أيما تأثير، وما زال النقاد يتعهدونها بالتحليل والدراسة والتذوق.
وفي وطننا العربي نقّاد منهم مَن هم كصائدي الدرر يبحثون عنها في الخضم الهائل للإنتاج الأدبي المتدفق إلى الساحات الأدبية، ومنهم من ينجرف مع التيار بغثه وسمينه، فيتبع أسماء بعينها دون أن يفرّق بين الماء وبين الزَّبَد في إنتاجه. والرأي النقدي هو حجة على الناقد قبل أن يكون شهادة للأديب؛ لأن القارئ الحاذق أو المتخصص يستطيع التمييز بين النقد المنصف الجاد الذي يرفع الناقد إلى مصاف المبدعين في مجاله، وبين النقد المجامِل أو المجحف الذي يهبط بالناقد ليكون رأيه النقدي أقل مما يُعتدّ به. أما النص الأدبي الجيد فإنه أكثر حصانة من أن يقع تحت رحمة ناقد بعينه، فحتى وإن خفضه ناقد معين في زمن ما، فإنه سيجد نقادًا كُثر ينصفونه حتى ولو بعد حين.
أما بالنسبة لتجربتي الشعرية فقد تناولتها قامات متميزة من النقاد في الوطن العربي، بفضل الله تعالى، وتوجهت إليها أنظار عدد من الدارسين في الجامعات، سواء في الأردن أو الوطن العربي أو حتى أبعد من ذلك؛ فهناك رسائل جامعية عليا، وأبحاث علمية متخصصة أجراها أساتذة جامعات، ومقالات نقدية نُشرت في صحف ومجلات، بعضها عميق وبعضها الآخر أقل من ذلك. وما زلت وسأبقى أطمح إلى المزيد من النقد الجاد الذي يتناول تجارب الأدباء الجادين أينما كانوا ليبقى الأدب مزدهرًا في عصرنا وفي العصور القادمة، إن شاء الله، فالأدب هو المؤشر الأقوى على حضارة الشعوب الإنسانية بكل أبعادها؛ الفكرية والجمالية والاجتماعية والعاطفية والتاريخية…
* ماذا عن انشغالاتك الراهنة؟ ماذا تقرأين؟ ماذا تكتبين؟
– عندما يحاصرني العمل فإنني أسمي جهدي فيه بالتعب اللذيذ، فأنا أشعر بالسعادة عندما أجد ما أعمله، وتغمرني البهجة بعد إنجاز العمل. وهذه حال الناس جميعًا، فنحن نشعر بأهمية وجودنا من خلال العمل، ونجدد حياتنا بالإنجاز والنجاح. تتعدد قراءاتي أحيانًا بحسب الحاجة إلى المعرفة في مجالات معينة، وأحيانًا أخرى يدفعني هوى النفس إلى قراءات أجد فيها متعتي.
كنت أقرأ القرآن الكريم، كحال أكثر الناس، قراءة فيها شيء من التدبر لفهم الآيات فحسب. ولكن بات يشغلني اتجاه جديد في شأن قراءتي لهذا الكتاب العظيم؛ فبعد أن أنجزت كتابي الذي يحلو لي أن أسميه كتاب الجماليات، وهو الموسوم بعنوان « جماليات الخطاب وجدلية المكان: مراوحة بين التأثير والتأثر (قصة يوسف نموذجًا)»، باتت تشدني القراءة التأملية التحليلية التي اعتمدتها في كتابي المذكور، فقد أتاحت لي تذوّق جماليات النص القرآني على المستوى الأدبي والفني، وباتت تتجلى لي أبعاد للمعنى غير التي عهدتها، تحتملها اللغة بتراكيبها وظلال مفرداتها، وقد أستوحي أبعادًا جديدة لفهم المعنى من خلال تحليل اللغة واكتشاف جوانب من جمالياتها. ولم أعد أكتفي بالرجوع إلى التفاسير القديمة لمعرفة أسباب نزول الآيات وربط المعنى بها فحسب، بل صرت أقارن بين التفاسير القديمة والحديثة للبحث عن الفروق الدقيقة أو الصريحة بينها، لتتسع آفاق المعنى في أثناء السعي إلى التأويل. وأعدّ هذه القراءات مرحلة تحضيرية لتجعلني مؤهلة، بعون الله وتوفيقه، للكتابة باستفاضة في هذا المجال المحبب إلى نفسي، حيث أزاوج بين الدراسات الأدبية والدراسات القرآنية.
رابط مختصر||https://palfcul.org/?p=6978