يوسف الشايب
يلخص الفنان حسام أبو عيشة مآلات الحالة الفلسطينية برمّتها، بالتحوّل المفجع الذي طال “قهوة زعترة” الشاهدة على امتداد حقبة قاربت نصف قرن من تاريخ القدس العتيقة السياسي والنضالي والاجتماعي والثقافي، وأهلها وشخصياتها، من مقر للتسامر ولمقاومة المُحتل، إلى متجر لبيع ألعاب الأطفال في نهاية المطاف.
ومن خلال حكايات والده حسام، صالح حسن الحاج خليل أبو عيشة اللداوي، العمود الرئيس للمقهى، وصاحب المقهى خليل زعترة، وحكاياته هو نفسه بشكل أساسيّ، يسرد أبو عيشة فصلاً من سيرة المدينة المقدسية،بتجسيده لما يزيد على العشرين شخصية من الجنسين، ومن خلفيات مختلفة، باقتدار فائق، جمعتهم جدران المقهى، وحكايات حرب منتظرة وأخرى عصفت بالجميع، وقصفت ذكرياتهم كما المدينة، بعد أن احتلها الغرباء، فتغيّرت ملامحها، كما حال “زعترة” وروّادها الجدد، في مرحلة ما قبل إغلاقها الأخير كمقهى.
وحكايات المقدسيين في “قهوة زعترة” ومحيطها وما أبعد من محيطها، تستحق التوثيق ليس في “مونودراما” ممتعة وعميقة كهذه فحسب، بل على أكثر من مستوى، فأبو عيشة رسم على المستوى الجغرافي بانوراما جعلت المشاهد يتخيّل القدس منذ مطلع القرن العشرين حتى بداية سبعينياته، علاوة على إبداعه في إظهار تفاصيل التكوينات الطبقية للمجتمع المقدسي في تلك الفترة، والتركيبة الاجتماعية، وطبيعة الناس، وما كانت تختزنه المدينة من حبّ وتسامح وألفة رغم الاحتلال وأعوانه.
جعلنا أبو عيشة نرصّ التمباك العجمي عوضاً عن والده لزبائن “قهوة زعترة”، وبينهم: أحمد نسيب عبد اللطيف مدير مدرسة الأمة الثانوية وراتب الراضي مدير المدرسة الرشيدية، وأبو علي النتشة، و”النطاس الشهير” الدكتور الترزي، الذي نقتحم وإياه منزله أكثر من مرّة، منها رفقة “الداية”، وأخرى رفقة “الدكتور المواسرجي” زكريا، وغيرها من حكايات معتقة بروائح توابل القدس، وسخونة كعكها وطعمه، كما حال الشطّة التي كان يرشها صالح على طبق الفول، الذي تذوّقناه، مساء أول من أمس، داخل قاعة مؤسسة عبد المحسن القطان في رام الله التي استضافت العرض.
وفي مونودراما “مقهى زعترة” عن نص أبو عيشة نفسه، تتلاحق الحكايات بتشويق خلا تماماً من أي ملل، وهذا لم يكن مردّه أنها جزء من يوميّاته وسيرة والده والعائلة، بل ذلك الأداء المُبهر لصاحب النص ومجسدّه الأوحد، الذي قدّم، رغم مسيرته الطويلة والمهمة، واحداً من أبرز أدواره المسرحية، ناجياً من فخ وقع فيه كثيرون قبله، باعتقادهم الخاطئ أن المونودراما هي فقط مسرحية الفنان الواحد، فوجدنا الكثير منهم يخلطون ما بين هذا الفن المسرحي الصعب، وما بين السرد الأقرب إلى نصوص الحكواتي البعيدة عن التعبيرات الجسدية، أو حتى “الستاند أب” الكوميدي أو غير الكوميدي.
وبرزت هنا بشكل جليّ الرؤية الفنيّة الناضجة لمخرج العمل الفنان كامل الباشا، الذي كان له دورٌ كبيرٌ، على ما أظن، بتقديم الفنان حسام أبو عيشة في حلّة جديدة، لا تخلو من خفة دم، ولكن مدروسة، وموظفة درامياً بشكل راقٍ وبعيداً عن أي تهريج واستخفاف بعقول المشاهدين، في عمل ساعدت فيه الفنانة شادن سليم المخرج الباشا، فكان ثلاثي الأبعاد على مستوى المشاركين، بينما يحمل أبعاداً أكثر بكثير على مستوى الأداء، والمضمون، والنص، والتوظيف الذكي لقدرات الممثل الفائقة، وللديكور والإضاءة على بساطتهما.
لذا خرج العمل بهيّاً كبهاء القدس، يحاول أن يرسم في خلطة فنيّة متقنة ما بين ابتسامة وغصّة لوحة عمّا كانت عليه القدس، وعمّا باتت عليه اليوم، لعله يقاوم محاولات المحو لذاكرة مدينة يتمناها الفلسطينيون عاصمتهم، وعمل ويعمل الاحتلال والجماعات الاستيطانية المتطرفة على تحويلها إلى متجر كبير لبيع الألعاب، ولليهود فقط!
المصدر: جريدة الأيام
الرابط المختصر|| https://palfcul.org/?p=4174