محمد عبد الرحيم
«أخرجتُ من فلسطين وأنا في العاشرة، بعد سنة من التطوّح على الدروب الممتدة بين المسميّة التي ولدتُ فيها، وغزة التي ألجأتني إليها ظروف 1948. ومنذ ذلك الوقت، عشتُ في المنفى وكابدتُ ما يكابده المرغم على الابتعاد عن وطنه وكواني الحنين. غير أن أوجاع الغربة لم تشتد في أي وقت بمقدار ما اشتدت بعد أن لاحت فرصة العودة إلى فلسطين، وعاد نفر من أصحابي فعلاً، وصرتُ أنا في أحاديثهم صاحبهم الذي بقي في الغربة». (من رواية الحنين)
الكاتب والباحث الفلسطيني فيصل حوراني (23 مارس/آذار 1939 ــ 12 مايو/أيار 2022)، يعد من الأصوات القليلة صاحبة التجربة الأعمق في المأساة الفلسطينية ودروبها السياسية الوعرة، إضافة إلى اطلاعه على تفاصيل دقيقة ـ نظراً لما شغله من مناصب ـ دارت في الكواليس السياسية، سواء على مستوى الأحداث أو الأشخاص والمواقف.
ومن خلال عدة مؤلفات والكثير من المقالات والدراسات، يتمثل صوت الرجل المختلف في وجهة النظر التي كوّنها تجاه المأساة الفلسطينية، لعل أهمها هو المحاولة المستمرة في البحث عن الحقائق وتجريدها من هالات الزعامة وضريبة الانتماء، التي في الغالب تعمل لصالح شخص أو فصيل على حساب الموضوع نفسه، فقد كان الرجل من القِلة التي انتقدت ياسر عرفات والقيادات الفلسطينية في تسعينيات القرن الفائت، بسبب السلوك السياسي لمنظمة التحرير التي ينتمي إليها ويعمل من خلالها، بشأن المفاوضات السرية التي كان يجب في رأيه أن يطّلع عليها الشعب.
وجهة النظر الانتقادية هذه تأكدت أكثر من خلال أعمال حوراني السياسية والإبداعية، التي سنستعرض بعضها..
التوثيق
اللافت في أعمال فيصل حوراني الإبداعية أنها لم تخلُ من التوثيق للأحداث والشخصيات، وإن كانت ذات بنية روائية. ربما يعود ذلك لما عايشه الرجل من حالة المنفى المزمنة، وما أتيح له من الاطلاع عليه بحسب عمله، سواء كانت وثائق أو مقابلات مع شخصيات مؤثرة في مسار القضية الفلسطينية، فالأعمال الإبداعية في مجملها أساسها شهادات لآخرين وموقف الكاتب منها وما نتج عنها من أحداث. ففي أحد حوارات حوراني بشأن نهب مكتبة مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأرشيفه في لبنان، يقول «حصلت القيادة الفلسطينية على ضمانات دولية بأن لا يتعرض المدنيون الفلسطينيون ومؤسساتهم لأي سوء على يد جيش إسرائيل، كما حصلت القيادة على ضمانات قدمها قادة الطرف اللبناني المتعاون مع إسرائيل بأن لا تمس سلطتهم الجديدة المدنيين الفلسطينيين، أو مؤسساتهم. وقد عززت القيادة الفلسطينية الضمانات اللبنانية بتقديم رشاوى بملايين الدولارات لعدد من أصحاب النفوذ في الجانب الذي قدمها.. إلا أن عملاء إسرائيل نفذوا بعد شهور من انسحاب القوات الإسرائيلية من غرب بيروت، جريمة تفجير مبنى المركز بسيارة ملغمة، وقد أصيب جرّاء التفجير مئة وعشرة أشخاص بين قتيل وجريح، وصار المبنى غير قابل للاستعمال، فقوة الانفجار عادلت قوة ربع طن من الديناميت».
المحاصرون
أصدر حوراني روايته «المحاصرون» عام 1973، حيث تدور أحداثها حول ما أطلق عليه (أيلول الأسود) عام 1970. لكن حوراني لا يتباكى أو يستغيث كَكَتبة الشعارات، بل يحاول رؤية الأمر بشكل مختلف، حيث طريقة عمل المقاومة الفلسطينية في الأردن، إيجاباً وسلباً، كذلك علاقتها مع الجيش والسلطة في الأردن، وطريقة تعاملها مع سكان القرى، إضافة إلى طبيعة التنافس والصراع بين الفصائل، وصولاً إلى التحالف ما بين الحكومة الأردنية والكيان الصهيوني. يقول.. «اكتظت الشوارع بالمسلحين، وتوترت المشاحنات بين التنظيمات، واشتد الاختصام على مظاهر النفوذ والمنافع، أما المشاحنات من السلطة، التي ساءها العمل الفدائي من أول الأمر، فقد فرضت وقعها الدامي على حياة الناس، مؤيدي العمل الفدائي وخصومه والمحتلين، ومع اشتداد عزم السلطة على اجتثاث الوجود الفدائي بأي ثمن، صار السلاح هو سيد القول والفعل، سلاح السلطة والسلاح الذي بيد الفدائيين». من ناحية أخرى يرى أن أعداد الفدائيين أصبحت في بعض الحالات أشبه بحاشية الفتوات، والأمر الأهم هو مَن يمتلك العدد الأكثر من الرجال.. «تكدسون الفدائيين حيث ينبغي أن لا يكونوا فيخلق تكديسهم مشاكل توجب تكديس المزيد منهم، وتوجهون أسلحة نحو أهداف لا لزوم للتوجه نحوها، وتطلقون الشعارات التي تملأ الأفواه ويجتذب ضجيجها أضواء الشهرة، وتهملون الأرض المحتلة ذاتها». أما الشخصيات فحدث ولا حرج، وقد اختار اسماً دالاً يُثير السخرية لمخالفته سلوك وصفات صاحبه (أبو الملاحم)، الذي يراه الكاتب ويصفه بأنه.. «إنسان أتى إلى العمل الفدائي دون أن يضحي بشيء، واكتسب شهرته بأيسر الوسائل.. المزايدة. إن أبا الملاحم والذين على شاكلته سيلقون اللوم على غيرهم لو انهار كل شيء، ولن يتورعوا عن اتهام الجماهير التي يعلون شأنها في خطبهم بأنها كانت دون مستوى الأحداث».
بير الشوم
ويواصل حوراني في هذا العمل أيضاً نظرته الانتقادية، نشرت الرواية في 2005، أي بعد ما يزيد عن الربع قرن، عائداً إلى عام 1948، مسجلاً وموثقاً لأحداث سقوط ثلاث قرى فلسطينية في أيدي العصابات الصهيونية. ولعل العودة إلى ذلك التاريخ كان ضرورياً وقت كتابة الرواية، حيث ثيمة الصراع بين النضال وتصفية الحسابات، فمن خلال شخصيتي (المختار) و(جواد) يتضح الأمر أكثر، هذا العطب الذي نشأ مع بداية المأساة.. فالمختار شخص إقطاعي يمثل القيادات الشعبية التقليدية، ورث مكانته عن أسلافه كالعادة، هادن الإنكليز وقبلهم الأتراك ثم الصهاينة، حتى يحتفظ بمكانته، ورغم ذلك تم تعيينه مسؤولاً في لجنة المقاومة، لكنه لم يخرج لقتال، ونتيجة ضياع كل شيء فقد عقله في النهاية. أما الآخر (جواد) الشاب مُنتقد سياسات المختار، فهو بالأساس ينتقم من المختار لأنه أخذ أرض أبيه عنوة ـ فكرة الأرض المسروقة ـ ولكن حماس الشاب وأسباب انتقامه وإن تجسدت في أشباه المختار، لم تخرج عن المحاولات.. فقد حمل بندقيته وحاول الهجوم على الإنكليز واليهود أكثر من مرة، لكنه لم يفعل. حاول قتل المختار، وقد أتيحت له الفرصة، لكنه لم يفعل. وعندما هاجم اليهود القرية كان عند (بير الشوم) مع سلاحه، دون أن يُطلق رصاصة. فألقوا القبض عليه، وقتلوه في النهاية عندما حاول الهرب. هذه هي النتيجة لأسباب يتم الكشف عنها، فلا فارق بين ما حدث في 48، وما يحدث الآن.
أعمال فيصل حوراني جديرة بإعادة قراءتها، بعيداً عن أصوات أدبية متواضعة فنياً، ويقتصر صخبها على المحافل والمؤتمرات ومعارض الكتاب. شكل آخر من أشكال (أبو الملاحم).
بيبلوغرافيا
فيصل محمد رشاد سلمان حوراني، مواليد عام 1939 في قرية المسميّة في غزة.
تخرّج في جامعة دمشق عام 1964 بشهادة في الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس. عمل محرراً في صحيفة «البعث»، وانضم عام 1962 إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، حتى فُصِل منه عام 1968. شغل منصب نائب ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في موسكو عامي 1977 و1978، وفي عام 1979 عمل في مركز الأبحاث في بيروت، حيث تولى رئاسة تحرير دوريتها (شؤون فلسطينية).
الأعمال
تنوعت أعمال فيصل حوراني ما بين الأبحاث والدراسات السياسية، والكتابة الإبداعية التي تدور في فلك القضية الفلسطينية، مثل.. «المحاصرون» (رواية) 1973. «الفكر السياسي الفلسطيني» 1964ــ 1974 (دراسة في المواثيق الرئيسية لمنظمة التحرير الفلسطينية) 1980. «سمك اللجة» (رواية) 1983. «عبد الناصر وقضية فلسطين» (قراءة لأفكاره وممارساته) 1987. «جذور الرفض الفلسطيني» (1918 ــ 1948) 1990. «دروب المنفى» (سيرة ذاتية في خمسة أجزاء) 2004 «الحنين» (رواية) 2004 «بير الشوم» (رواية) 2005 «باولا وأنا» (حكاية وثائقية) 2022.
المصدر|| القدس العربي
رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=4446