حسام معروف
تبدو الطريقة التي نشأت من خلالها دولة إسرائيل -في مثل هذا اليوم قبل 75 عاما- استثناء في التاريخ الحديث، حيث قطع مئات الآلاف من البشر مسافات طويلة من أوروبا وغيرها، تاركين الأوطان التي نشؤوا فيها، قاصدين أرضا بعينها مأهولة بسكانها، بنيّة طردهم وانتزاع وجودهم من الأرض التي عاش أجدادهم فيها.
لكن، ما الخيط الذي اعتمد عليه المستوطنون الجدد في هذا التجمع غير المتجانس هل هو العرق أم الدين أم غير ذلك؟
فن لأغراض الاحتلال
يرى الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني (1936- 1972)، في كتابه “الأدب الصهيوني”، بأن اللغة العبرية هي الأساس الذي بنيت عليه فكرة دولة إسرائيل، فكانت الخيط الذي تمكن اليهود من تمريره فيما بينهم ليتفقوا أخيرا على فكرة الوطن القومي.
ويصف كنفاني، من خلال هذا الكتاب، الأدب باعتباره الطريقة المتقاطعة مع اللغات بكافة أشكالها، من أجل عمل غسيل للمشاعر العالمية، وتعميق فكرة وجود دولة إسرائيل، في الذهن البشري.
يكشف كنفاني في كتابه، المكون من 195 صفحة من القطع المتوسط، عن أن الصهيونية الأدبية كان لها الأسبقية على الصهيونية السياسية، التي استخدمت فيما بعد الأدب من أجل تحقيق أهدافها في الوجود والسيطرة على الأرض الفلسطينية.
يقول كنفاني في كتابه “ربما كانت تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ حيث يستخدم الفن في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر وأوسع عملية تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة”.
ومن خلال المعلومات التي يوردها الكتاب، يتضح أن عمر الفكرة الصهيونية يمتد إلى ما يقارب 150 عاما، وقد كان الأدب هو أول العرّابين لهذه الدولة، وقد اعتمد الأدب الصهيوني، سياسة التضليل الثقافي والادّعاء والتدليس، وقلب الحقائق، واستجداء العاطفة العالمية، من خلال روايات أدبية كثيرة، جاءت ممهدة لفكرة الدولة الغاصبة، ومسوّقة للمعاناة التي طالت اليهود في أوروبا عبر التاريخ.
ويلمح كنفاني إلى اتباع تلك الروايات سياسة الكذب، وحرص كتّابها على التسويق بأن الإسرائيليين لطالما عاملوا العرب بتهذيب شديد، وبمنتهى الأخلاق، والزعم بأن العرب همجيون متوحشون وبدائيون، وهي عملية دعاية عكسية، للتغطية على الوحشية التي جاء بها اليهود من كافة بقاع العالم، ليكونوا مثل شق في الحائط، في منطقة الشرق الأوسط.
اللغة العبرية
أطلق فيلسوف الصهيونية الروحي آحاد هعام مبادرة اللغة العبرية كخيط يربط اليهود في أوروبا والعالم، وأطلق مقولته الشهيرة “آخر يهودي وأول عبري”، وقد تُوّجت جهود فلاسفة الصهيونية من أجل ترسيخ اللغة العبرية، بمنح جائزة نوبل للكاتب الأوكراني المنافح عن الصهيونية شيموئيل عجنون عام 1966، فقط لأنه كان يكتب بالعبرية، وبعد عام واحد كان عجنون -عضو أكاديمية اللغة العبرية التي كانت تعنى بتطوير اللغة العبرية الناشئة- من المدافعين عن استيلاء إسرائيل على الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967.
ومنحت لجنة نوبل جائزتها مناصفة في العام نفسه للكاتبة السويدية نيلي زاكس لأنها تناولت مصير إسرائيل في كتابات درامية غنائية.
ووفق ما يرد في كتاب كنفاني، كانت اللغة العبرية بعد القرن التاسع الميلادي لغة الشعر والصلوات الدينية عند اليهود، لكنها تحولت في القرن الـ18، إلى لغة سياسية تجمع اليهود على فكرة التجمع في مكان واحد وإقامة دولة يهودية، تلك اللغة التي قال عنها بن غوريون “كانت لغة غير متكلَّمة، تعيش في القلوب”.
ويُظهر كنفاني في بحثه، أن اليهود رفضوا الاندماج بالمجتمعات الأوروبية، وكان موقفهم الفكري دوما، رفض الاندماج، والشعور بالتميز، إذ كانت تلازمهم فكرة شعب الله المختار.
لقد كرّس الأدب الصهيوني، فكرة اليهودي المعصوم من الخطأ، وتطورت شخصية اليهودي التائه إلى شخصية اليهودي الباحث عن المصير، والمناقش للإله.
الشخصية الإسرائيلية في الأدب
أدبيا، بادرت الكاتبة الإنجليزية ماريا إدجورث بوضع الشخصية اليهودية الطيبة في روايتها “هارنغتون” عام 1806، وتبعها الكاتب والشاعر الأسكتلندي والتر سكوت عام 1819، برواية “آيفنهو”، لكن تيارا يهوديا أوروبيا رفض تلك اليد الممدودة وجاء صوت رئيس الوزراء البريطاني بينجامين دزرائيلي عام 1833، ليؤكد هذه المشاعر، بالتأكيد على أهمية ما أسماه العرْق العبري الخالص.
كتب دزرائيلي -الذي حاول التوفيق بين نزعة خدمة مصالح إمبراطورية بلاده الإمبريالية ومطامح جذوره اليهودية- أن “العبريين عرق غير مختلط”، وفي عام 1876 جاءت رواية “دانيال ديروندا”، للكاتبة الإنجليزية ماري إيفانس، الشهيرة بجورج إليوت، لتكتب بالخط العريض أحقية اليهود بوطن قومي في فلسطين، واعتبر الناقد الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد أن رواية سكوت عملت كدعاية لنشر الفكر الصهيوني والتشجيع المبكر لإنشاء دولة يهودية في أراضي فلسطين.
تقول الكاتبة على لسان شخصية مردخاي الصهيونية “سيكون لجنسنا مركز عضوي، قلب ودماغ ليحرس ويقود وينفذ.. سوف يحصل اليهودي المضطهد عند ذاك على مرافعة في محكمة الشعوب.. سوف يكسب العالم إسرائيل من جديد، كما تكسب إسرائيل بدورها.. لأن مجتمعنا سيكون في طليعة الشرق، يحمل ثقافة وأحاسيس كل الأمم الكبيرة في ذروة ازدهارها”.
وبالتزامن مع ذلك، قدمت فرقة “هابيما” المسرحية التي مثلت المسرح الصهيوني في أوروبا (واستوطنت فلسطين لاحقا)، رسالة دينية واضحة تسحب مشاعر العالم واليهود إلى طريق وحيد، وهو فلسطين، بحجة البحث عن وطن يصنع الخير للإنسانية ويقودها إلى الخلاص، ويبحث عن المهدي المنتظر.
وبعد النكبة ردت الدولة الإسرائيلية الجميل لداعميها المبكرين، وكان من أوائل قراراتها بعد نكبة فلسطين عام 1948، إطلاق اسم جورج إليوت على أحد شوارع تل أبيب.
ويورد كنفاني في كتابه قول المنظر الصهيوني ديفيد غوردون “إن لنا ميزة نحن اليهود أن نكون الأوائل، ليس لأننا أحسن من الآخرين، ولكن لأننا تعذبنا كثيرا”.
لقد كانت دعوة الكاتب تيودور هرتزل في روايته “الأرض الجديدة القديمة” دعوة سياسية بحتة، ولا تحمل الطابع الفني بقدر ما تحمل دعوة لليهود في العالم للذهاب لفلسطين. وقد أقر هو نفسه بذلك، بعدما اعتزل الكتابة الأدبية فيما بعد، واتجه لإنشاء المنظمة الصهيونية، وعقد أول مؤتمر للصهيونية في مدينة بال السويسرية، 1897.
ويقول كنفاني عن دراسة لأستاذ الدراسات الشرقية شلومو غويتين، في عام 1955، عنوانها “اليهود والعرب.. علاقتهم عبر الأجيال” إن اليهود كانوا يلقون معاملة حسنة من العرب، ويركز على العلاقة الطيبة بينهما، وبأن تلك العلاقة لم يحكمها العداء للسامية، ولا العقد العرقية، ويستدرك كنفاني، كيف يدّعي اليهود في تبريراتهم بأنهم أتوا لغزو فلسطين للرد على الاضطهاد العرقي في أوقات سابقة، وهو ما حمله جوهر الأعمال الأدبية حينها.
أوهام مخترعة
ويوثق كنفاني ميل الروايات الصهيونية إلى اختراع أوهام لا تتسق مع التاريخ أو المنطق، مثلما فعل كاتب السيناريو والروائي الأميركي ليون أوريس في رواية “إكسودس” (تعني الخروج) واتهم فيها العقل العربي التجاري بالضحالة، والاكتفاء بالعرض والطلب، في حين وصف اليهودي بأنه يعمل وفق مبادئ.
ولطالما كانت الروايات المؤيدة لإنشاء دولة إسرائيل، تأتي ببطل يهودي فقد أهله في الحروب النازية، ويسقط في غرام شخصية غير يهودية، وفي النهاية لا ينوب البطل سوى الخذلان والمزيد من الحزن، وبأنه بحاجة لمكان آمن يعالج من خلاله أوجاعه.
بينما يأتي العربي في السرد الروائي المؤسس للصهيونية، أجيرا لطرف خارجي، همجيا، بلا أخلاق، متخلفا ذهنيا، كما ويتم توصيف العرب بالمخربين لأرض يقيمون عليها، وليس لهم أي علاقة تاريخية بها.
وفي رواية إكسودس تقول إحدى الشخصيات “لو كان عرب فلسطين أحبوا أرضهم، لما كان بوسع أي كان، طردهم، بدل الهرب منها بدون سبب حقيقي. لقد كان لدى العرب قليل من الأشياء، ليعيشوا من أجلها، وأقل من ذلك ليقاتلوا في سبيله.. وذلك ليس ردة فعل من يعشق أرضه”.
وبخلاف ذلك توصف تلك الروايات المقاتل اليهودي بأنه الأفضل في العالم، ويرد في الرواية ذاتها قول إحدى الشخصيات “إنني أحب الجنود اليهود، المحارب اليهودي هو الأفضل، فهو مقاتل ومثالي في آن واحد.. إن رجال الهاغاناه يشكلون بلا تردد أعلى مستوى ثقافي وعقلاني ومثالي لرجل تحت تهديد السلاح، في العالم أجمع”.
مسوغات سرقة الأرض
والأَولى وفق رؤية كنفاني أن يقوم الكاتب الصهيوني خلال سرده، بتبرير عدم الاندماج الاجتماعي الذي لطالما اتخذه اليهود سلوكا، مع المجتمع الغربي، كما وعلى الكاتب أن يبرر الفوقية الصهيونية تجاه العالم، والأهم تبرير انتزاع المواطن الفلسطيني من أرضه، وغزو فلسطين، لكن هذا يأخذ العقل باتجاه إدانة الصهيونية برمّتها.
إن الرؤية الصهيونية، تهدف إلى تصنيف اليهودي بأنه الأحق بالأرض العربية، من خلال مسوّغات واهية، قائمة على التزييف، واجترار الخزعبلات من الخيال، وكان مرادهم من هذا السيرك الأدبي، إقناع العالم بأن العربي لا يستحق الوجود على الأرض، من خلال إيراد قناعات غير عقلانية حوله.
فالعربي عند الكاتب الهنغاري اليهودي، آرثر كوستلر، في رواية “لصوص في الليل”، يبيع ابنته بالزواج مقابل مجموعة من الجِمال، في حين يورد ليون أوريس بأن العربي يزحف أمام المقاتل اليهودي زحفا، ويركز أوريس على تشويه صورة المرأة العربية خلال سرده، مبينا أنها تباع كسلعة من قبل الأخ، من أجل الحصول على المال.
ومن المثير أن كوستلر وبعد دفاعه عن الصهيونية، وانضمامه لها، وقدومه لفلسطين، بداية احتلالها؛ سافر فيما بعد للولايات المتحدة الأميركية، وتخلى عن الصهيونية بالكامل.
ولم يكف الكاتب الأيرلندي فرانك أوكنور عن التمهيد لقدرة اليهودي على صناعة الجَمال، واستثمار الأرض، ففي روايته “نجمة في الريح”، بدا مدهوشا، كما أورد كنفاني، من الجمال الذي تمكن القليل من اليهود من صناعته في الأرض الفلسطينية، إذ كتب “سمعت أن اليهود في فلسطين، جعلوا الصحاري تتفتح كالورود”. والغريب أن روايته هذه كانت تفتقر للمسوغات المنطقية، إذ إنها قائمة على السماع، لا أكثر.
إن المنهجية المتبعة من غسان كنفاني في هذا الكتاب، وعبر 8 فصول، هي الرد على التدليس الصهيوني، من خلال جمع بعض أدوات التحضير للجريمة المرتكبة بحق شعب فلسطين، وكشف قصر نظر المروجين لدولة إسرائيل من الأدباء والسياسيين في العالم.
هذا الجهد، لم يتوقف عند كنفاني، فمن خلال مسيرته الروائية والصحفية، كان دائم الهجوم على الفكرة الصهيونية، ودائم الفضح لمبررات وجودها مبينا حجم المآسي التي أوقعها الاحتلال بأرض فلسطين، وتشريد أهلها.