9 December, 2024

“عالم 9” لمحمد جبعيتي.. واقع فنتازي يحاكي مآسي النساء في الحروب

كتبت بديعة زيدان:

“اسمي 9، أمقته، شيء قبيح للغاية، يا له من اسم! أعتقد أني في التاسعة والعشرين، أكثر ربما بعام أو عامين، لا أدري! توقَّفت عن الانتباه لعمري منذ الحادثة، إذ نزل بي الحزن ولم يغادرني. أعيش، كما أخمِّن، في مدينة yes، عروس بلاد الشمال، حيث البرد والعزلة. من أنا؟ هذا السؤال الذي لا أضجر منه. هل بنت أمِّي؟ أم بنت عدوِّها؟ لا شيء. أقلتُ شيئا! أهذي”.

بهذه العبارات تختصر الشخصية المحورية في رواية “عالم 9” للروائي الفلسطيني محمد جبعيتي حكايتها، وهي الرواية الصادرة حديثاً عن دار “الآداب” في بيروت.

أحداث الرواية تجري في مدينة متخيلة أطلق عليها جبعيتي اسم (YES)، دون الإشارة إلى موقعها الجغرافي من قريب أو بعيد، وكأنها إحالة إلى أن وقائع الرواية حدثت وتحدث في جغرافيات متعددة، والحال ذاته ينطبق على الزمان الغائب عن الرواية أيضاً، رغم إشارته إلى كون المدينة تعاني من حرب أهلية مستعرة.

تسلط رواية “عالم 9” الضوء بشكل أساسي على تداعيات هذه الحرب الأهلية على الأطفال والنساء، حيث إن الشخصيات الرئيسة للرواية ثلاث نساء، فيما تركز بؤرة العدسة السردية مع توالي الصفحات على اثنتين منهن، الأم (3) وابنتها (9)، فالشخوص لا تحمل أسماءً بل أرقاماً، وفي هذا إحالة ربما إلى واقع فلسطيني يحمل فيه الأسرى أرقاماً داخل الزنازين، وهو حال جثامين الشهداء المحتجزة فيما يُعرف بـ”مقابر الأرقام”، في حين أن الفتاة (6) هي صديقة للفتاة (9)، وإن كانت الأولى لا تحظى بذلك الحضور المحوري في الرواية.

وفيما يتعلق باستخدام الأرقام عوضاً عن الأسماء، فهو ينطبق على الشخصيات الهامشية أو العابرة أيضاً كـ (4) و(12)، و(29)، وغيرها، وكأنه، علاوة على ما ذكر أعلاه، يريد القول إن الحروب عامة، والأهلية منها خاصة، تحوّل البشر بكل ما يحملونه من حيوات إلى محض أرقام، وخاصة النساء منهم، واللواتي سيطر حضورهن على الرواية باستثناء شخصية وحيدة حملت حرفاً لا رقماً هو (ألف)، ما يدلل على أن الأرقام هنا تخص النساء دون غيرهن.
يقتحم جيش ما المدينة، ويهجمون على المنازل، يقتلون الرجال ويغتصبون النساء، فتلجأ الأم (3) إلى الاختباء رفقة ابنتها داخل خزانة، بعد أن تكتم صوتها بيدها، فتمنع النفس عنها، وتنتهي جثة في حضنها، قبل أن يُكتشف أمرها، وتتعرض هي أيضاً للاغتصاب، بعيد قتل زوجها، لتبقى هوية الجنين الذي يكبر داخل أحشائها مع الوقت مصدر قلق وتوتر يرافقها على الدوام، ما قبل وبعد رحلة التهجير ومحاولة البحث عن مكان آمن تلجأ إليه، وهنا إحالة لما تعرض له الشعب الفلسطيني في العام 1948 على يد أفراد العصابات الصهيونية، ولا يزال يتعرض له العديد من الشعوب التي تئن تحت وطأة الحروب عامة، والأهلية على وجه الخصوص، وخاصة في الجغرافيات الناطقة بالعربية.

وبقيت هذه المشاعر ترافقها تجاه جنينها، ومن ثم ابنتها، لدرجة أنها فكرت بإجهاضها لكونها، في الغالب، هي نتيجة اغتصابها من ذلك الضابط في الجيش، لكن العجوز التي لجأت إليها وآوتها تقنعها بالإقلاع عن ذلك، فهي في نهاية المطاف ابنتها، لذا تبقى علاقتها بها تتنقل ما بين محبة وكره، وقرب وبعد، وشدة ولين، فهي تعيش تجاهها مشاعر مختلطة، وهنا نجح الروائي جبعيتي في تقمص شخصية امرأة تفقد زوجها وابنتها في الحرب، وتتعرض لاغتصاب، وتحمل بابنتها الثانية سفاحاً.

ما بعد وضعها لمولودتها (9)، وبعد أن تبلغ الطفلة من العمر عامين، تتعرض المنطقة حيث باتت تعيش إلى تفجير بسيارة مفخخة، فتقرر ثم تنجح في مساعيها للهجرة، ولو بطريقة غير شرعية إلى جغرافيا أكثر أمناً، بعد أن تتجاوزا رفقة مجموعة المهاجرين، سلسلة محطات صعبة، تشكل كل منها عنواناً محتملاً للموت.

“يومها قررّت مغادرة أرض الخراب. اشتغلت عاماً في خدمة البيوت، وفي المصانع، والدكاكين، والحقول من أجل الحصول على نقود لدفعها للمهرّبين”.

وفي الرحلة الصعبة يظهر “ألف”، ذلك الموسيقي الذي تصل به المآلات إلى الزنازين حيث التعذيب الجسدي القاسي، قبل أن ينجو بأعجوبة من حكم عليه بالإعدام، فيرافق (3) و(9) وبقية المجموعة رحلة الموت أو النجاة من “أرض الخراب”، بحيث يتظاهران بأنهما عروسان لعبور حاجز كان يعترض طريق جميع الفارّين، وفي وقت لاحق يتزوجان فعلاً، وكأنهما يراكمان حطامهما سوياً، فلكل معضلاته النفسية العميقة، إلا أنه يفعل بابنة زوجته ما كان فعله الضابط بأمها، التي تصدمها هنا بهويّتها.

والرجل الوحيد الذي يحظى بحضور ما في الرواية يبدو وكأنه يشكل جسر نجاة في فترة، ومن ثم أداة لاغتيال (9) نفسياً بعد استباحة جسدها، هي التي تدخل في عالم فنتازي غريب تتخيل فيه سلحفاة عملاقة ترافقها يوميّاتها باستمرار.. وهنا لم يكن اختيار السلحفاة اعتباطاً، فالفتاة (9) تحاول أن تحاكي أفعالها بالاختباء في صدفتها عن شعورها بالخوف، خاصة بعد فرارها من المنزل.

وكما في روايته السابقة، يمزج جبعيتي ما بين الواقع والخيال، فرواية “عالم 9” لا تخلو من فنتازيات متنوعة، وخاصة عند العبور إلى عوالم الفتاة أو الطفلة (9) وسلحفائها الضخمة، وهو العالم المتخيل الذي ارتمت في أحضانه هروباً من انتهاكات “ألف” زوج أمها “3”.

“كانت متعبة، فأخذت قيلولة قصيرة، وعندما استيقظت لم تجد السلحفاة. جلست على حافة السرير تسرح بأفكارها. لن تهرب، فهي صغيرة، لا تملك المال، والعالم في الخارج أكثر خطورة.. أخبرت زميلاتها أن لديها صديقة سلحفاة، لمست الحسد في كلامهنّ، حينها، شعرت بالانتقام لنفسها”.

كثيرة هي تأويلات “عالم 9” ما بين وقائعها وفنتازيتها، ومنها دور الفنون الملتبس في علاج ندوب الحروب من عدمه، تلك التي تأكل نارها الجميع، وعلى وجه خاص، وكما أشرت سابقاً، الأطفال والنساء.

الرابط المختصر || https://palfcul.org/?p=2818

Font Resize