صدر حديثا كتاب “شيرين أبو عاقلة.. سيرة صحفية” بالتزامن مع الذكرى الأولى لاغتيال الصحفية في قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، وبعد أيام فقط من الاحتفال باليوم العالمي لحرية الصحافة، وقد تبخرت حزمة الوعود التي أطلقها المجتمع الدولي بملاحقة ومحاسبة الجناة.
الكتاب الذي صدر باللغتين العربية والإنجليزية -بالشراكة بين معهد الجزيرة للإعلام ومؤسسة ديالكتيك للإعلام البحثي والتدريب- من إعداد محمد البقالي وحياة الحريري، وتحرير محمد خمايسة ومحمد أحداد، ويمكن الاطلاع عليه باللغتين عبر موقع معهد الجزيرة للإعلام.
وقد اغتال الاحتلال الإسرائيلي أبو عاقلة في الميدان مرتدية سترة الصحافة، وهي منهمكة في نقل الرواية الحقيقية للعالم. وخلال الفترة الماضية تحول اغتيالها إلى قضية عالمية من زاوية التنديد بوحشية الاحتلال وكذا من زاوية الاحتفاء بمسيرتها المهنية الطويلة، لكن لم تكن هناك قبل ذلك محاولة تأسيسية لفهم قدرة أبو عاقلة على التأثير في الرأي العام العربي والعالمي أيضا طيلة عقود.
وباستثناء شهادات زميلاتها وزملائها، كان استحضار تجربة أبو عاقلة مرتبطا بالرثاء الذي تفرضه الطريقة التراجيدية التي رحلت بها، وغاب التفكير في الممارسة المهنية والأخلاقية الواعية المؤطرة لتجربتها الطويلة في الصحافة.
وخلال هذه التجربة لم ينظر إلى أبو عاقلة على أنها معارضة سياسية أو متخندقة في معسكر أيديولوجي أو منحازة إلى تيار، رغم أنها اشتغلت في بيئة سياسية معادية لممارسة المهنة سيجها الاحتلال بـ “أسوارعالية” ولغمتها الصراعات الفلسطينية الداخلية.
وفي هذا التخبط القاتم، لم تفقد أبو عاقلة مهنيتها وقدرتها على الوصول إلى أكبر شريحة من الجمهور المنقسم.
ورغم أنه في العادة تدفع هذه البيئة السياسية المعقدة إلى “المعارضة السياسية” بدا أن إخضاع تقارير أبو عاقلة للدراسة والتحليل يوضح إلى أي مدى بقيت متوازنة حتى وهي تغطي قضية تنتمي إليها.
ولقد تماهت أبو عاقلة مع الصحافة حد التصوف، لدرجة أن وليد العمري (مدير مكتب الجزيرة بفلسطين والمشارك في الكتاب) وصفها بأنها المؤشر الذي “نقيس به مهنيتنا”.
وكانت أبو عاقلة صحفية حرب، صحفية الميدان، صوت فلسطين، صحفية القصة الإنسانية القريبة من الناس، مؤرخة اللحظة، صوت الجزيرة. وبين كل هذه الصفات يمكن أن تقرأ تجربة أبو عاقلة التي اقترنت صورتها بقناة الجزيرة، وبقدرتها الاستثنائية على حماية مبادئ الصحافة، ويستحضر الكتاب سيرتها المهنية وفق تقسيم منهجي يقتفي تقاريرها على شاشة الجزيرة.
مسطرة مهنية وأخلاقية
يتضمن هذا التقسيم أبو عاقلة والجزيرة، حضور الإنسان والقصة الإنسانية، أخلاقيات المهنة، العمل الميداني ثم مراقبة السلطة بكل تجلياتها. أما الفصل الأخير، فقد خصص للقضية المركزية التي بذلت حياتها في سبيلها، وهي القضية الفلسطينية.
وفي مقدمته للكتاب كتب العمري، أن أبو عاقلة كانت “المسطرة التي أقيس بها نفسي وباقي الزميلات والزملاء مهنيا وأخلاقيا وإنسانيا، لم ترد محتاجا قصدها، لم تخطئ مرة في عملها، لم تقصر ولم تشك من مهمة كلفت بها، خاضت غمار العمل بكل مخاطره وتحدياته، كانت دائمة التعليم والتعلم، علمت في جامعة بيرزيت وتعلمت فيها”.
وتابع العمري قائلا إن ذكرى أبو عاقلة تبقى مؤبدة، فلها في كل موقع وواقعة ذكرى. هنا كان لها لقاء مباشر على قناة الجزيرة عن عائلة ثكلت عزيزها بالدفاع عن الوطن والمواطنين. وهنا أعدت تقريرا أو قصة إنسانية عن عائلة منكوبة. وهنا روت قصة شهيد ومعاناة أسير. وهنا حكت للناس والعالم تعقيدات الخطر المحدق بحياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي.
وأضاف أن أبو عاقلة روت قصص الأطفال ومعاناتهم في طريقهم إلى المدرسة بسبب إجراءات الاحتلال، ونقلت أوجاعهم على آبائهم أسرى الحرية في سجون الاحتلال، وغطت الحروب وغطت مباحثات السلام، نقلت أخبار الإنجازات والإخفاقات، وغطت الأفراح والأتراح. وكانت أول من ظهر على شاشة الجزيرة ترتدي الزي الوقائي من وباء كورونا، عندما جازفت وأعدت تقريرا عن أوائل المصابين، وكانت طالبة عائدة لتوها من فرنسا.
وأضاف العمري في مقدمة الكتاب: جابت (أبو عاقلة) في تغطيتها طول فلسطين وعرضها، من رفح جنوب قطاع غزة على الحدود مع مصر حتى رأس الناقورة على الحدود مع لبنان، ومن يافا على البحر المتوسط إلى مجدل شمس في الجولان السوري المحتل، ومن جنين إلى الخليل ومن الناصرة إلى بئر السبع.
وكانت أبو عاقلة في كل موقع وواقعة في كل حدث وحديث حكاية شعب على مدار سنوات عملها الـ 25 مراسلة متقدمة في قناة الجزيرة. نقبت عن الحقيقة ونقلتها للجمهور، ونبشت الأرض مع أهالي الشهداء في مخيم جنين خلال معركة صموده واجتياحه من قبل الاحتلال عام 2002، بحسب العمري.
وتابع مدير مكتب الجزيرة بفلسطين “لا أبالغ إذا قلت -وبحساب بسيط- إنها ربما أعدت ما لا يقل عن 2500 تقرير، وقدمت ضعف هذا العدد وربما أكثر من المقابلات المباشرة التي عالجت فيها مواضيع تنتمي إلى الرياضة والصحة والتعليم والاقتصاد والسياسة والحرب. وكانت مسيرتها المهنية ثرية على نحو غير مسبوق لصحفي معروف محليا وعربيا وعالميا. وغطت قصصا وأحداثا على جانبي الخط الأخضر، وفي الأردن وسوريا والولايات المتحدة وبريطانيا والفاتيكان ولاهاي وروما وتايلند ومصر”.
القيم المهنية
وفي الجزء الأول من الكتاب بعنوان “شيرين أبو عاقلة.. القيم المهنية في الممارسة الصحفية” يناقش محمد البقالي مراسل الجزيرة في فرنسا تجربة أبو عاقلة في الجزيرة وفي بيئة مهنية مختلفة، ويتناول دور المراسل الصحفي والمؤسسة الإعلامية، ومسار بناء القيم المهنية المشتركة، كما يناقش الفرص المهنية والإكراهات الميدانية التي عاشتها في تجربة العمل مع قناة الجزيرة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب تتم مناقشة “الإنسان والقصة الإنسانية في تقارير شيرين أبو عاقلة” بما في ذلك حكي القضايا الكبيرة من خلال تفاصيل صغيرة، قوة الصورة وقوة الكلمة، القصة الإنسانية وخدمتها بالأرقام، الصحافة المتعاطفة دون انحياز، قوة التكثيف، التخصيص والتعميم، شهود القصة الإنسانية.
وفي الفصل الثالث بعنوان “أخلاقيات المهنة.. الالتزام المهني والأخلاقي في تقارير شيرين أبو عاقلة” يناقش الكتاب تقاطعات قيم المؤسسة والالتزام الصحفي، المعلومة الدقيقة حيث الأرقام أصدق إنباء من الكلمات، القرب من الحقيقة بعيدا عن خطاب الضحية، التوازن وقول الحقيقة ولو كانت مرة، إظهار الحقيقة وحفظ كرامة الشهداء.
ويناقش الفصل الرابع “المصاعب والإكراهات في العمل الميداني” حيث الطريق الصعب إلى الحقيقة، مفصلا في خطوط التماس بين الصحفي والمؤرخ، والشهادة على جغرافية الوطن المحتل. بينما يناقش الفصل الخامس الصحافة في مواجهة السلطة، الانتصار للمهنة في مواجهة الاحتلال والإخفاء، التحقق من الرواية الإسرائيلية عندما تتحول الصحافة إلى جهاز لكشف كذب الاحتلال.
استحضار القضية
وفي الجزء الثاني من الكتاب بعنوان “استحضار القضية الفلسطينية في تقارير شيرين أبو عاقلة” كتبت الباحثة والصحفية حياة الحريري، مديرة مؤسسة ديالكتيك للإعلام البحثي والتدريب، عن استحضار القضية الفلسطينية من خلال حرية العبادة وممارسة الشعائر الدينية، واستحضار القضية الفلسطينية من خلال تغطية الاستيطان.
وأيضا تناولت استحضار القضية الفلسطينية في تقارير أبو عاقلة من خلال انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، سياسة الهدم والعزل، الحق في التعليم وحقوق الطفل، قضية الأسرى، قضايا التراث والثقافة.