9 October, 2024

شخصية معرض عمّان الدولي للكتاب بدورته الحادية والعشرين وليد سيف.. حراسة رواية الفلسطينيين

بديعة زيدان:

قرر المفكر والأديب وكاتب السيناريو والمثقف الموسوعي، د. وليد سيف، تحويل “التغريبة الفلسطينية” إلى رواية في جزأين، تصدر قريباً، أولهما بعنوان “حكايا البلاد”، والثاني بعنوان “حكايا المخيم”، مشيراً في ندوة تكريمية له باعتباره شخصية معرض عمّان الدولي للكتاب في دورته الحادية والعشرين، إلى أن تحويل “التغريبة الفلسطينية” إلى رواية يأتي من ذلك الرابط ما بين كافة أنواع الفنون السردية بأشكالها المختلفة.

“هناك عناصر مشتركة ما بين الرواية والعمل الدرامي لا شك، لكن كل منها لديه عناصره الخاصة به، فالثيمة البصرية لها جاذبيتها ويمكنها فتح آفاق فيها وإغلاقها، إلا أن العقل الروائي يفرد مساحات واسعة لعوالم الشخصيات الداخلية وكيفية تلقيها لما هو حولها، على عكس العمل التلفزيوني الذي يعبر إما بالحركة أو بالحوار المباشر.. المساحات في الرواية أوسع في أكثر من اتجاه، من بينها الشعرية، واستدعاء التراث الشعبي والمخيلة الشعبية التي هي جزء من الرواية الفلسطينية التي لا يجوز القفز عنها. الشعب هو الراوي هنا، فهو محرك العملية السردية، والرابط بين مكوناتها. أريد أن أوجه القارئ لكيفية قراءة الرواية، فيجب أن يقرأها على عاتقه، ويتصورها كما تتفتت في وعيه. تتفاوت الأمور ما بين العمل التلفزيوني والرواية، ولا أشك أن أيّ منهما يجبّ الآخر، فإحدى سمات الحداثة الآن، أو ما بعد الحداثة، هو ذاك التراث ما بين الفنون والآداب المختلفة، فترى روايات كثيرة تتحول إلى سينما أو دراما تلفزيونية أو إلى مسرح، ومسرحيات تتحول إلى أعمال تلفزيونية أو سينمائية، وربما أكون الوحيد عربياً من أقدم على تحويل أعمال درامية إلى روايات، شريطة أن يكون مهيئاً لذلك، وهو كذلك بالفعل لكوني كتبت نص الدراما التلفزيونية بحس أدبي ورؤية أدبية، وهناك الآن تجارب أميركية بتحويل أفلام سينمائية ومسلسلات ناجحة جماهيرياً إلى روايات. تحويل العمل الدرامي إلى رواية لا يعني إبقاءه سيناريو، وهناك حركة نشر نشطة للسيناريوهات غربياً، ولكن تحويله إلى رواية يعني إخضاعه لمقتضيات الشكل الروائي ومتطلباته، ما يمنح الشخوص فرصاً للتعبير لا تمنحها إياه الكاميرا”.

وكشف سيف أيضاً: “أنا بصدد تحويل أعمالي الدراما التلفزيونية إلى أعمال روائية، ومنها: (ملوك الطوائف)، و(ملحمة الحب والرحيل)، وهو عمل قديم لديه خصوصية تميّزه بالنسبة لي، لكونه يتناول حرب البسوس، وهي من الملاحم التاريخية التي لم يتنبه إليها الكتاب العرب ممّن وقفوا عند سردها ومحاكاتها ونقدها تاريخياً، علاوة على السيرة الشعبية حولها والتي شوهت الحقائق التاريخية المرتبطة بها، لذا اتجهت لإنصاف هذه الملحمة العربية العظيمة في ثمانينيات القرن الماضي، أما فيما يتعلق بـ(عمر)، فلعلي أقدم على تجربة جديدة، فهذه المرّة لا أحوّل العمل إلى رواية، بل أنقلها على شكل كتابة درامية، خاصة أنه ليس لدينا تقليد تقديم الدراما المكتوبة، ما آمل أن يضيف طبقات جديدة على طبقات المعاني والاستقبال السابقة. سأكتفي بسبع عشرة حلقة من مسلسل (عمر) وأعمل على تحويلها إلى مشاهد مكتوبة، من خلال الاتكاء على عدد من الشخصيات ليسوا من كبار الصحابة المعروفين، ولعل العمل حين صدوره يحدث حالة من الانفكاك لجهة الربط المتواصل ما بين الأدب والدراما المسرحية، والتي يجب ألا تبقى الوسيلة المتاحة للتعبير عن العمل الأدبي، ولذا فالمشهدية العالية التي توفرها لنا الكتابة الدرامية ستكون أوسع في مداها عن تلك المشهدية في الكتابة الدرامية المسرحية”.

وتحدث سيف عن أنه يعكف على كتابة عمل درامي جديد بعنوان “عصفور غرناطة”، يكمل سلسلته الدرامية حول الأندلس، ويتطرق إلى “العرب الموريسكيين”، ممّن بقوا في الأندلس ردحاً طويلاً من الزمان، بعد سقوط غرناطة، وتعرضوا للاضطهاد الشديد، وهي “مرحلة لا يعرف الكثيرون عنها”.

وشدد سيف على أنه لا يحب المفاضلة بين أشكال الإبداع المختلفة، كالمفاضلة بين الشعر والرواية، أو السينما والتلفزيون، مؤكداً أن “المفاضلة تكون في المستوى الإبداعي، ويستحيل تقديم شكل إبداعي على آخر من باب التعميم، نشهد ومنذ عقود هيمنة الأشكال السردية، وتراجع الشكل الشعريّ في العالم كله، ولذلك أسباب مختلفة تحتاج إلى حديث مطوّل”.

واللافت، وفق سيف، أن “الحدّ الفاصل بين جمهور الأدب العالي وبين جمهور الأدب الشعبي أو الفنون العالية والشعبية، لم يعد قائماً، فثمة حالة اندماج ما بين الجمهورين، كما اندمجت الأشكال الشعبية بالأشكال الأدبية أو الفنية العالية، وبالتالي فإن أي شكل يتعالى على الجمهور ولا يخاطب إلا جزءاً محدوداً منه، يتراجع في حقيقة الأمر حد الانغلاق أحياناً، وهذا ينطبق على الشعر أكثر، في حين أن الأعمال السردية مهما بلغ مستواها الفني والأدبي من الرقي والتعقيد تحتفظ بمادة حكائية تخاطب الطبقات المختلفة على اختلاف مرجعياتها أو على اختلاف خلفيّاتها الثقافية، وهو ما أدى إلى هيمنة السرديّات في هذا الوقت، ولهذه الهيمنة جوانب إيجابية وأخرى سلبية، ومن أبرز السلبيات أنه بات يُخشى أن الرواية تحوّلت إلى حمار لأدب يمتطيه من يشاء، ولكن الجمهور القارئ، وبجهود من الأدباء والمثقفين والنقاد، سيكون هو الحكم الأعظم مع ارتقاء ذائقته، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”.

ورفض سيف “تنميط الذات أو تنميط الآخر”، ولكن “كالعادة، الفكرة الصحيحة قد ترتد على نفسها إذا لم تعالج أو يتم التعاطي معها كما يجب.. العدو هو عدو، وهو إنسان في ذات الوقت، ولكن الإشكالية هي استحضار المحرقة النازية بوصفها ديباجة تمررنا إلى أنسنة قضيتنا الفلسطينية، لأن أعظم ما في قضيتنا من الإنسانية هو أن نبقى قابضين على جمرها، مع التأكيد على أن المقاومة لا تحتاج إلى مبرّرات من خارجنا. الضحية الفلسطينية تنتسب إلى أي ضحية أخرى في العالم سابقاً، بما فيها ضحايا فرعون من بني إسرائيل، وضحايا النازية من يهود ألمانيا، بينما جلّادي ينتسب إلى الجلّاد الألماني النازي، وإلى الجلاد الفرعوني. ليس علي أن أضع نفسي في مواقف دفاعية اعتذارية مبطّنة لتبرير مواقفي ومقاومتي في سبيل وطني ومواجهة العدو الذي لم يكتفِ باغتصاب الأرض، بل يسعى لاغتصاب الثقافة، وتفريغ الوطن من ذاكرته. قضية الأنسنة مهمة في جانب منها، حتى إزاء العدو، ولكن المبالغة فيها قد يرتد علينا بالسلب، وقد يعكس شعوراً بالنقص”.

وختم سيف: “أي عمل هو تاريخي بالضرورة، فليس العمل التاريخي هو فقط ما يستحضر التاريخ من بطون أمهات الكتب، فالحدث الواقع الآن هو تاريخي أيضاً، وما يجعل من عمل ما معاصراً ليس الزمان الذي تدور في إطاره الأحداث، بل طريقة المعالجة كتابياً ودرامياً، والطرح الذي عليه أن يلامس الشطر الإنساني بالأساس. ما أقوم به هو توظيف المادة التاريخية لأطرح أسئلة من خلال وعيي المعاصر، وهي موجهة لمشاهد مُعاصر لديه أسئلته وشروطه الآنية، فنجمع ما بين أمرين أولهما التعريف بالماضي، بمعنى: من أين أتينا، بحيث لا يمكن أن نعرف أين نحن دون معرفة أين كنا ومن أين جئنا، وثانيهما تقديمها بوعي معاصر”، مشدداً على أن “الكثير من الأعمال الدرامية والإبداعية عموماً، والتي توصف بالمُعاصِرة تختلف عن واقعنا المُعاش والمعاصر اليوم. لم أذهب إلى أي عمل بقرار مسبق، وإنما ألتقط مادة ما تنفتح أمامي بما يجعلني أقدمها وفق معالجات أدبية درامية فنية”.

“التغريبة الفلسطينية”
وأشارت الناقدة والأكاديمية الأردنية، د. رزان إبراهيم، في الندوة ذاتها، إلى أن “التغريبة الفلسطينية” أصبحت سجل جيل جديد من الشباب الذين لم يشهدوا النكبة أو النكسة، بحيث تعرفوا من خلال هذه الدراما التلفزيونية صاحبة الأثر الوجداني العظيم، على تفاصيل ما حدث، حتى “تراهم يقتبسون ويضعون على صفحاتهم” في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة “عبارات ومشاهد مقتطفة من التغريبة”.

“لن يغيب عن مشاهد التغريبة الفلسطينية أن فلسطين عاشت في قلب وليد سيف، وشكلت وعيه ووجدانه وأحلامه وشرط وجوده. الذين شاهدوها من الفلسطينيين وجدوا فيها مرآة لحياتهم وأهلهم، ووجدوا أنها صورة من آبائهم وأجدادهم وأقاربهم، وأنها كانت تروي قصصهم الخاصة بقدر ما كانت تروي قصة الشعب الفلسطيني”.

وشدّدت إبراهيم على أنه “إذا كانت الذاكرة في الحالة الفلسطينية شرطاً وجودياً للهوية كي تبقى وتستمر وتواصل كفاحها”، وإذا كان “العدو الصهيوني راهن على غياب الذاكرة في الأجيال الجديدة المتعاقبة، فنحن في التغريبة مع سردية تساهم في إفشال الرهان الصهيوني، فالماضي في الحالة الفلسطينية جزء أساسي من الحاضر والمستقبل، وإذا كانت الحركة الصهيونية قد أدركت أهمية الدراما في الترويج لروايتها الخاصة وجذب التعاطف معها، فأنتجت العديد من الأعمال الدرامية السينمائية والتلفزيونية والمسرحية لهذا الغرض، لا سيما استغلال موضوع المحرقة، في المقابل كان هناك تقصير في الجانب العربي، فجاءت التغريبة كي تسدّ هذا النقص وللتخفيف من هذا التقصير”.

ومما خلصت إليه إبراهيم أن المعالجة الدرامية السردية في “التغريبة الفلسطينية”، لم تنزلق “إلى تقديم صورة مثالية رومانسية للواقع الاجتماعي الفلسطيني، بما ينجم عنها من ترويج دعائي ساذج وشعارات رنّانة، فعلى الرغم من نبل القضية وسموها وكفاح الشعب الفلسطيني في وجه ظروف قاهرة، لم تخجل التغريبة من تجسيد الكثير من عيوب المجتمع، وتناقضاته، وصراعاته الداخلية، وبعض مظاهر التخلف في ثقافته العامة، والصراعات الطبقية، والمظالم التي تقع على المرأة”، وغير ذلك.

وليد سيف شاعراً
وتناول الناقد فخري صالح في مداخلته زاوية مغايرة، بالحديث عن وليد سيف شاعراً من خلال مجموعاته الشعرية الثلاث، مشدداً على أن سيف “ليس كاتب دراما فحسب، بل هو فاعل في حقول ثقافية وإبداعية عدّة، وإنه بدأ شاعراً بارزاً ومحلقاً منذ كان صغيراً لم يبلغ العشرين من عمره، فقد كان من الشعراء البارزين منذ بدايات سبعينيات القرن الماضي، ليس في الأردن أو فلسطين فقط، وإنما في العالم العربي”.

واستعار صالح مقولة للناقد اللبناني الراحل محمد دكروب جاء فيها: إن حضور وليد سيف في ملتقى بيروت الشعري العام 1971، كان حدثاً ثقافيّاً لافتاً، مشيراً إلى أنها “شهادة من ناقد بارز، حينذاك”.

وشدّد صالح على أن سيف “كان شاعراً له حضوره البارز بين كوكبة شعراء فلسطين والأردن والعالم العربي، وذلك عبر ثلاث مجموعات شعرية صدرت خلال عشر سنوات”، وهي مجموعات: “قصائد في زمن الفتح” (1969) وكتب جلّ قصائدها وهو دون العشرين عاماً، و”وشم على ذراع خضرة” (1971)، و”تغريبة بني فلسطين” (1979).

ومما جاء في مداخلة الناقد فخري صالح أن المتتبع لتجربة وليد سيف الشعرية يلاحظ “حركة تطوّر متسارعة، ونضوج الصوت الشعري لديه، فهناك قفزة واضحة ما بين المجموعتين الأولى والثانية مع أن الفارق الزمني في النشر ما بينهما لا يتعدى العامين، ليؤكد على الصوت الشعري الخاص به في مجموعته الثانية على وجه التحديد، ليكون واحداً من الأصوات الشعرية البارزة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي عربياً”.

ولفت صالح إلى أن سيف ومنذ البدايات “كان يسعى لكتابة ملحمة شعرية يجسد من خلالها تاريخ وقضية الشعب الفلسطيني، عبر قصيدة ملحمية فيها كوكبة من الأصوات التي تتحاور وتتضاد داخل نصه الشعري، عبر شخصيات محورية كسيد ياسين وخضرة، والقصائد عبارة عن حكاياتهما مع محيطهما وصراعاتهما مع السلطات في العالم العربي التي تقف ضد المقاومة الفلسطينية، وقبلها مع الصهيونية التي تسعى لمحو فلسطين شعباً وأرضاً وذاكرة”.

وأشار صالح إلى أن مجموعة “تغريبة بني فلسطين” هي في حقيقة الأمر “تغريبة سيد ياسين”، الشخصية المحورية في مجموعة سيف الشعرية “وشم على ذراع خضرة”، وهي تواصل في قصائد الثيمات والموتيفات في المجموعة التي سبقتها، ما يكرس أوركسترالية صوته الشعري في التعبير الملحمي عبر قصائده عن قضيتنا الجمعية، القضية الفلسطينية.

دور تنويريّ
بدوره، اعتبر الإعلامي والكاتب معن البياري أن “وليد سيف هو كاتب الدراما التاريخية الأميز عربيّاً، ما يعود إلى أنه لم يكن أبداً مؤرخاً، ولا معنياً بتقديم وقائع من الماضي وتشخيصها في سيناريوهات وحوارات، لتكون مشاهد على شاشة التلفزيون، وإنما ظلّ معنياً، في مجمل أعماله، بصناعة جمال إبداعي من هذه الوقائع. وإذا كانت دراما وليد سيف التاريخية حافظت على المركزي والجوهري من وقائع التاريخ التي انشغلت به، فإنها، في الوقت نفسه، أحاطته بكثير مما أبدعته مخيلته الثرية، من وقائع أحياناً وشخصيات أحياناً أخرى، وذلك لإحداث مزيد من التفاعل الحي والإيجابي مع مسار الأحداث وصعودها، وانعطافاتها، والتوترات والصراعات فيها”.

وممّا جاء في مداخلة البياري وإدارته للندوة، أن وليد سيف كان “في كل ما عجنه من شخصيات، وما تتابعت في سطور صفحات أعماله من مشاهد وحروب ومعارك ودسائس مثلاً، شديد الوفاء لمنظوره في الدراما التاريخية كفعل جمال إبداعي، مهجوس بتنوير الأمة وتعريفها بوطأة ما أتعب ماضيها ممّا هو باقٍ في راهنها”.

وكانت الندوة انطلقت بمداخلة قصيرة لوزيرة الثقافة الأردنية، هيفاء النجار، عبّرت من خلالها عن فخرها وسعادتها باختيار د. وليد سيف شخصية أول دورة لمعرض عمّان الدولي للكتاب، في المئوية الثانية من عمر المملكة الأردنية الهاشمية، وهو الذي كرمه العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في ذكرى عيد الاستقلال الأخيرة، مشددة على الدور الريادي لسيف كمثقف شمولي، فهو المفكر والفيلسوف وكاتب الدراما والشاعر والروائي، وهو نموذج للمبدع الكوني، لذا فهو يستحق هذا التكريم وأكثر.

المصدر: الأيام 

رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=5474

Font Resize