8 October, 2024

سلمى الخضرا الجيوسي.. قبطانة القصيدة المائية في شعر المرأة العربية

سمير حاج

 في سفرها  الشعري  الجديد “صفونا مع الدهر “الصادر  عن الأهلية – 2021 ، تعود البجعة  الفلسطينية الأردنية إلى مرفئها القديم.. الشعر، مختزلة مسيرتها الشعرية بين ديوانها الأول “العودة من النبع الحالم” – 1960، وهذا المزمور الطويل السافح قصائده على 237 صفحة، والمذيل بـ 20 قصيدة من ديوانها الأو ، كما أن صورة الشاعرة الزاهية البسيمة الملونة تهدهد الغلاف.

سلمى الجيوسي تعود للشعر بعد قطيعة  61 عاما، من نشر أناشيدها ومزاميرها. وتمخر سفينتها الثانية (صفونا مع الدهر)، طافحة  بالشعر المائي الشفاف والمفردات الجمالية المموسقة، وصور النقاء  والانتماء الإنساني الكوني  والحب الصوفي، متماهية بعنونة الديوان مع السموأل بقوله: “صفونا فلم نكدر  وأخلص سرنا / إناث أطابت حملنا  وفحول”.

سلمى الجيوسي كما في قصائدها الدائرية، بدأت شاعرة وعادت  شاعرة  إلى نبعها الحالم، رغم انشغالها عقودا بالترجمة والدراسة والبحث.هذه القامة الثقافية الشامخة، المحتفية قريبا بإتمام عشرينيتها الخامسة، تشكل أيقونة عصر ورافعة للأدب الفلسطيني بشكل خاص والعربي بشكل عام، بمشروعها الريادي النهضوي الحداثي  “بروتا” PROTA  الذي أبدع بترجمة ونشر رموز وأصوات الثقافة العربية إلى الإنجليزية، عدا عن إبداعاتها الملونة من بحث أكاديمي رصين  وشعر وفن عمراني.

والشاعرة من رواد القصيدة الحداثية مع أعضاء “مجلة شعر” اللبنانية التي أسسها يوسف الخال عام 1957، وضمت في بداياتها  أدونيس وخليل حاوي ونذير العظمة. كما أنها شاعرة تموزية، ويتجلى ذلك في قصيدتها (تموز) المنشورة في عدد تشرين أول 1957 لمجلة شعر، والمترعة بلوعة الفراق والحزن والذكرى، إذ تقول: “تموز ودعنا ومات وخلف الذكرى لنا/ أيقظت يا تموز نجوانا ولم ترفق بنا/ واصطدت من دنيا الكواكب حلمنا”.

مانفستو  الدفاع عن  الشعراء الحديثين وإدانة طفيليي الشعر

في آذار 1960 إبان الصخب والجدل حول حركة الشعر العربي الحديث، نشرت سلمى الجيوسي في مجلة “الآداب” مقالا جريئا بعنوان: “قضية الشعر العربي الحديث”، دافعت فيه وسط أصوات الهجوم والرفض عن الشعر الحديث، وأبدت تأييدها للحداثة الشعرية العربية واستشرفت بعين الرائية نجاحها “لكننا نحن الشعراء الحديثين، أصحاب قضية نؤمن بها إيمانا عميقا..عليه فإنه لا يسعني أن أقول لمن يؤمن بالحركة الحديثة إلا أن يصبر ويترفق في حكمه، فأنا مؤمنة في الشعر الحديث وفي مستقبله، وأجد لزاما علي أن أدعو له وأدافع عنه وألح على مزاياه وشروطه وأصالته”.

وفي المقال نفسه أدانت ما تفرغ عن هذه الحركة من محاولات شعرية، لطفيليين لا يملكون المواهب والعمق، في فهم ومواكبة هذه الحداثة، كما رأت فيهم ظاهرة طبيعية لكل حركة جديدة.

بين مدينة لويس ممفورد ومدينة سلمى الجيوسي

في عام 2007 شاركت بورقة في مؤتمر “الأدب الفلسطيني في الشتات” في جامعة بيت لحم، وهناك حظيت بلقاء الشاعرة  الدكتورة سلمى الجيوسي التي جرى تكريمها في هذا المؤتمر.

في لقائنا تحدثنا عن  المدينة وصورها  في الشعر العربي، وقد أبدت غضبها على المؤرخ الأميركي لويس ممفورد صاحب مؤلفThe City in History المترجم تحت عنوان “المدينة على مر العصور”، فرغم شمولية وأهمية كتاب ممفورد، إلا أنه لم يدخل في عمله ولو مدينة إسلامية واحدة، وفق ما وصفت الدكتورة الجيوسي “كما لو أن المدن الإسلامية تأسست وسكنت خارج العمران البشري، بل خارج التاريخ  البشري نفسه”.

وصرحت أمامي أنها تعد مؤلفا بالإنجليزية حول المدينة الإسلامية للرد على كتاب ممفورد، وقد استقطبت في مشروعها هذا كبار المؤرخين والباحثين، وصدر المجلد الأول منه بتحريرها عام  2008 باللغة الإنجليزية، تحت عنوان The City in the Islamic World ، كما ترجم وصدر بالعربية عام 2014،  عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان “المدينة في العالم الإسلامي”.

البجعة العائدة من المهجر والشتات إلى الوطن ومحراب الشعر

هذا الديوان الجديد الحامل نقاء البجعة وجمالها، والمستهل  بمزمور شعري دائري مموسق “وما شربته السماء أعادته”، والمنثور بالصور والرسومات الشعرية الجميلة دون أن يشي بتواريخ كتابة القصائد،  يؤرخ صيرورة الحياة بوجعها ومآسيها، وسيرورة الشاعرة الفلسطينية الحزن، الحاملة صوت الذاكرة الجمعية  في التغريبة  الفلسطينية الوجيعة، وفي النكبات عبر السنين الطويلة  كما في قصيدة  “حزيران 1967″، لكنه عابق بالشذا والهوى والصفاء واستشراف النوروالحنين، رغم تجاعيد العمر، وكما تومئ وترسم كلماتها  المموسقة، معرفة دلالة العنوان: “صفونا مع الدهر، كالبحر مرت علينا الرياح / وهبت علينا العواصف لم تغونا / ولم تنتقص من هوانا السنين/  وما شربته السماء أعادته / حتى النهاية يبقى الحنين/ إلى نكهة لم نذقها، / إلى رحلة لم نمارس ضناها/ إلى نجمة خارج الأفق لم نكتشف مرتقاها /  إلى بسمة من إله بديع يضيء الحنايا سناها/ صفونا مع الدهر / لم تنتقص من هوانا السنين/  وهذي التجاعيد حول الجفون شذاها “، فهوى الشاعرة وحنينها  خالد وسرمدي ، يكبر معها ويصوك عطره مع تجاعيد الجسد.

سلمى الجيوسي شاعرة مائية

سلمى الخضرا الجيوسي شاعرة مائية بامتياز، على غرار زميلها ابن جيلها بدر شاكر السياب صاحب “أنشودة المطر” ، فالنبع في ديوانها الأول أصبح بحرا تمخر فيها سفنها، بدءا من “السفينة العاشقة “بوابة الديوان، المحملة بالشوق والعشق والحب،  الفائض على الجميع، وصوت الشاعرة  مختالب ماضي  شعبها وذراه، رغم أنه أضحى من التائهين والناعسين، لكنها تستشرف الأمل والنهوض في نهاية القصيدة  “غطني  يا حبيب بصدرك تاهت هنا أعين الآخرين …../ آه كيف تشق السفينة موج البحار / تتهادى على منكبيها الأميرين، أي انسياب /وحدها، وحدها، مع هدير المحيط ، مع المد / لا تستفيق/ تتهادى تطوف على الموج،/ تغرق في عتمات القرار / ..اعتقوني / دنا النجم / إني على الريح، أمسك سر الرؤى والجمال”، وهي في “السفينة الغارقة ” بترميزها  تعبر عن عذابات الأم الأنثى الفلسطينية المنكوبة، المحرومة من الحب والوطن والدار “هل جاءتك أخباري؟ / أنا أم ،أنا أنثى بلا حب  / وأمس قضيت من عاري / بلا قلب ، بلا  وطن، بلا دار”.

 تكثف الشاعرة في استخدام القاموس المائي مثل مرادفات البحر والماء والنبع وأسطورة أخيل، كما أن عناوين قصائدها مغمورة بالماء رمز الطهارة والعماد والخصوبة والنسغ.

هذه السمفونية الفلسطينية الجميلة الحزينة.. تحمل في أفيائها موناليزا الأدب العربي الحداثي قاطبة وصوت المرأة المرهفة والمرهقة.. إنها المرأة التنويرية الموسوعية المبدعة الرائدة في نقل أصوات المبدعين  العرب للقراء الأجانب.. وهي الشاعرة المائية الصافية اللغة الدائرية الشعر المسكونة بالينابيع، بدءا من  “العودة من النبع الحالم” ورجوعا إليه في “العودة إلى النبع” من ديوانها الجديد. وهي رحالة سندبادية التغريبة، حروفها نازفة وجعا “لقد جبت في الكون، يا منهل العمر، ضعت / وعريت قلبي لعصف الرياح/ وعانقت مأساة شعبي ،عشقت حنين الجراح / وسالت دمائي دمعا من الصبر واليأس لكن رجعت”.

المصدر: الحياة الجديدة

رابط مختصر|| https://palfcul.org/?p=5487

Font Resize