رشيد عبد الرحمن النجاب
ما بين زرعين المكان وزرعين الرواية صور للعشق والحنين، وصدى إيقاع لحياة كانت تدب هناك ذات يوم، صور تعدد أبطالها وتنوعت تفاصيلها، وكان الشوق والحنين والانتماء يجمعها، أما زرعين المكان فقرية كنعانية الاسم؛ ارتبطت بالزراعة اسما وتفاصيل حياة، تجاور جنين إلى الشمال بما يقارب 11 كيلومترا، تتربع في مرج ابن عامر، وتطل عليه في غربها، وتقابل وادي الأردن وغوره وجباله في ناحيتها الشرقية، شهد هذا الموقع بعض أحداث الرواية موضوع هذه السطور والموسومة “زرعين”، أما زرعين الرواية فهي عمل د.صافي صافي، أستاذ الفيزياء في جامعة بيرزيت، وفي مصادفة طريفة، تسمى مادة الفيزياء في بعض الجامعات العربية “الطبيعة”، في النص يقرأ أستاذ الطبيعة بدقة معالم الطبيعة في فلسطين، بأعشابها وأشجارها؛ البرية منها والمثمرة، توالى ذلك عبر المسار الذي ولدت منه فكرة هذه الرواية والتي لم تكن مخططة وفقا لما قاله مؤلفها. جاءت الرواية في نحو مئة وست وخمسين صفحة من القطع المتوسط، عبر سرد متتابع يؤثث مضامينها ورسائلها، “برغم مرارة المضامين” كما أشار الأستاذ جميل السحلوت في قراءته.
من رام الله إلى القدس، اتجهت الحافلة شمالا، بركابها الخمسين في مسار حرص الكاتب على أن يرسم تفاصيله بتعداد البلدات التي شكلت مسار هذه الرحلة، لا بل والآبار والعيون أنى كان ذلك ممكنا ولا يخفي الكاتب سرا باستعانته بالشبكة العنكبوتية لسرد بعض هذه التفاصيل، كان لكل فرد من الخمسين راكبا، اهتماماته وهمومه، وربما أحزانه، ولكن الكاتب جعل هذه الرواية في خمسة فصول ملقيا الضوء على ثلاثة من الركاب باتخاذ أسمائهم وسما لعناوين ثلاثة منها، فيما اتخذ أحد الفصول اسما لصديقة الراوي من أيام الدراسة الجامعية “حنان”، والتي انتهت إلى تواصل افتراضي عبر شبكات التواصل الاجتماعي، “حنان” ودلالات الاسم! تقاطع مع مضامين للرواية تبلورت من خلالها تلك العاطفة، وارتسمت، تنهيدة، دمعة، أو تأمل صامت مكتف بضجيج نبض غاضب، هي لم تكن في الحافلة، ولكن رغبتها كانت حاضرة في وجدان الراوي الذي سعى لتحقيقها جاهدا، والذي تمثل في صورة لبيت جدها في بيسان، فأي غرض أرادته من الحصول على تلك الصورة؟، أما الفصل الأخير فحمل عنوان الرواية ذاتها، لم يكن الفصل الأخير أخيرا إلا في موقعه من صفحات الكتاب، أما الأحداث فقد تداخلت في بداياتها ونهاياتها بسلاسة، بل أدخل هذا الأسلوب قدرا من التشويق، وترك للقارئ أمر ترتيبها واكتمال صورتها.
ثمة في هذه الرواية ثلاثة مضامين رئيسة وحشد من عناصر أخرى تعززها وتقرأ تفاصيلها، أولها ما شكله حرص “أبو ماهر” على إيصال رفات والده لدفنه مع جده في بلدته زرعين، وما يعكسه ذلك من رغبة البقاء في الأرض، حتى ولو كان رفاتا، وانتهى هذا المشهد بمشاعر مختلطة، بين فرح بتنفيذ الوصية، وحزن للفراق. وقد استخدم الكاتب هذا الحدث في طرح العديد من التساؤلات ساعيا لنفي الكثير من الأوهام التي رافقت دفن الميت كالتلقين مثلا.
شحن د.صافي فصول هذه الرواية بمشاعر مختلطة من الغضب والترقب المشوب بكثير من القلق، من خلال المشهد المتمثل في طلب جمال للشرطة بمخاطره وتبعاته، والذي تناوله الكاتب من زوايا متعددة في كل فصل، إلى أن بلغ الموقف الدرامي أوجه في الفصل الأخير حيث اكتملت جوانب الصورة. أما “أبو نهاد” فقد أطل من خلاله على عمواس، وما تشكله من مكانة كونها إحدى القرى الثلاث التي دمرت في حزيران العام 1967 “عمواس ويالو وبيت نوبا”، وصورة أخرى من التمسك بالأرض رسمها أبو نهاد بما أقدم عليه من زرع للافتات التي تحمل اسمه واسم عائلته في موقع بيته في بقايا القرية المهدمة، مرة بعد مرة. كان أبو نهاد جزءا من المشهد الأخير الذي نشأ عندما انفصل أربعة رجال عن الفريق، يلفهم الظلام، ويتهددهم خطر الانزلاق، أما الراوي فحمل رسالة حاول تحقيقها بالوصول إلى بيت جد صديقته “حنان” في بيسان وتصويره للتشبث بالظلال التي تحيط بالصورة، حنان تقول، “وجود الظلال يؤكد أننا ما زلنا هناك”.
ثمة في الرواية حشد من المضامين أبدأها بهذا التصوير لمكونات الطبيعة في فلسطين، جبالها، أعشابها التي كان التعرف إليها وجمعها، مثار حوارات شغلت بعض فضاء السرد بطريقة مشوقة، خروب، زعرور، ميرمية، زعمطوط، وحنون الغزال، حتى الشومر تعدى الفائدة الطبية إلى الاستعانة بعصيه للاستناد عليها في المسار المنحدر، مع علمهم بعدم القدرة على الاعتماد على هذا النبات كثيرا، ولم يكن “الشجّاع”، أو “تفاح المجانين” أو أسماؤه المتعددة الأخرى، ومفعول هذه النبتة بعيدا عن حوارات المشاركين في هذا المسار.
وتساءل الراوي عن سر إبقاء أطلال بعض القرى وبقاياها ؟! ويخلص إلى هذه القراءة: “….لكنني أخشى أن نرضى بهذه الوقفات، لنظل نبكي، ونجتر الذكريات التي لم نعشها نحن، هل ودوا أن نظل نبكي ونحزن؟ هل يزيد حزننا لو جرفوها؟ ربما أرادوا أن نتمثل في هذه البقايا، فنحن بالنسبة لهم مجرد بقايا..لا أعرف”.
ويستعيد الكاتب هذه الصورة الحية لما كانت عليه الحياة في ذلك الموقع ذات يوم، يطيل النظر إلى بقايا القرية، استجابة لسؤال من جمال الذي كان يصور المشهد، ينقل صورا حافلة بالحياة، كأنه يراها، الآن، وجدتني أشاركه تفاصيل تلك المشاهد التي كونت الصورة، والتي نقلت بإحساس رقيق وصادق إيقاع الحياة، ليس في زرعين وحسب بل في كل القرى والبلدات؛ بيت نبالا، جيبيا وغيرها الكثير الكثير.
كان الوقت المقطوع في الحافلة، يمضي بين التأمل المنفرد، وربما الراحة من مسافة المشي التي انقضت، إلا أنه ثمة جوانب أخرى، فإضافة إلى الرقص والغناء أحيانا، وبعض المعلومات التي كان يقدمها جمال المقدسي، ويستمدها من الشبكة العنكبوتية، كانوا يصلون إلى مواقف متباينة، وقد استنجد الكاتب بأحد شخوص الرواية “غسان” ليقدم رأيا في موضوع ذي طبيعة جدلية “مقولة الضابط العراقي من جيش الإنقاذ …ماكو أوامر” تباين الرأي فيه، هل كان الكاتب مؤيدا للرأي الذي قدمه غسان؟ لا استطيع أن أجزم أو أن أنفي ولكنني أعتقد أن الكاتب كان يهدف إلى أن يبقي باب الحوار مفتوحا.
شكل الموقف الذي نجم عن استدعاء الشرطة من قبل جمال، إدانة له، خصوصا مع عدم مشاركة الشرطة بشكل فاعل في إنقاذ الرجال الأربعة من موقفهم الصعب الحافل بالمخاطر، حيث تم الإنقاذ بمساعدة أعضاء الفريق أنفسهم، ما مرر رسالة مفادها أن الإنقاذ كان سيتم بفعل تعاون الفريق، ولكن جمال مضى في موقفه الغريب والمتعنت، والذي بدا دليل ضعف وانقياد أكثر من كونه دليل قوة وقدرة على القيادة، وتشبث جمال من موقف الضعف هذا برأيه، مهاجما قيادة الحاج إبراهيم للمسار، غير مبال بخطورة الخطوة التي أقدم عليها دون داع، بالرغم من علمه بمدى حرج الموقف، بل وخطورته بالنسبة لبعض الركاب “أبو ماهر مثلا”، وذلك الموقف المتشنج تجاه “الحاج إبراهيم” الذي أبداه جمال وكاد يطيح بالفريق لولا تعقل الحاج إبراهيم.
ثم هذا الإجماع التلقائي غير المخطط له بعدم الاستجابة لمحاولات الشرطة، معرفة من المسؤول؟ ومن المخطط؟ ….الخ. مقرونا ببعض المواقف الفردية، الراوي مثلا الذي تحامل على ألم القدم الناتج عن الانزلاق ومشى نحو كيلومتر دون الحاجة لاستخدام سيارة الشرطة، كيف توقع جمال غير هذا وقد أحضر المشاركون حقائبهم المزودة بالطعام، وحتى الماء ليكونوا قادرين عن الاستغناء عن شراء أي شيء من هناك!؟.
المصدر: الأيام
الرابط المختصر||https://palfcul.org/?p=4345